العالم كله يمر بفترة اضطراب، لكن بؤرة هذا الاضطراب تظل في الولايات المتحدة حيث القوة التي ما زالت هي الأعظم اقتصادياً والأقوى عسكرياً والأشد تأثيراً سياسياً، وهي في حالة انقسام لم تشهده منذ صعدت لزعامة العالم، والأخطر من ذلك أن هذا الانقسام لا يبدو مرشحاً لنهاية قريبة بل على العكس فإن التصعيد هو سيد الموقف، والأزمة تهدد الاقتصاد بما هو أسوأ مما حدث قبل عشر سنوات، وما يصعب الحال أن من يقودون أميركا في هذا الطريق بكل آثاره على العالم كله، ينطلقون من أن هذا هو ما يحقق حلم استعادة «أميركا الأعظم»!!النهج الذي اتبعته الإدارة الأميركية خلال العامين الماضيين فجر العديد من المعارك الصغيرة والكبيرة، سواء في الداخل الأميركي أو في الخارج، وسواء أكانت المعارك ضد الأعداء والمنافسين أو حتى ضد الحلفاء.

بالطبع لم تكن المسؤولية هنا على سياسة واشنطن وحدها، لكن الظرف التاريخي كان حاكماً، والتوافق بين صعود اليمين الشعبوي في أميركا وأوروبا ليس مصادفة، اللحظة هي لحظة أزمة النظام العالمي الذي ارتضاه العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وهي أزمة نظام التجارة العالمية بوضعها الحالي، وهي أزمة ظروف يبحث فيها العالم عن قواعد جديدة ونظام جديد ومؤسسات دولية تنظم الصراعات وفرض قواعد اللعبة بين الكبار الجدد، ووفق ما تفرضه موازين القوى في عالم متغير.

ربما كان ما يحدث في الولايات المتحدة هو العنوان البارز لذلك، وربما أثارت شخصية الرئيس ترامب وطريقة إدارته للأمور الكثير من الضباب حول جوهر أزمة القوة الأعظم، وهي تحاول أن تحافظ على مكانتها في عالم تتغير فيه موازين القوى، وتتعدد الأقطاب الساعية إلى مكان في القمة، وتتصاعد الأزمات التي يمر بها عالم يواجه تكلفة نظام عالمي يتفكك، وأيضاً تكلفة نظام جديد مازال قيد الميلاد ورهينة المعارك التي يمكن أن يفلت زمامها كما يحدث عندما ينتقل العالم من نظام إلى آخر!

ووسط الاضطراب الكبير الذي يسود الحياة السياسية الأميركية ويترك آثاره على العالم كله، فإن الضباب الكثيف والمعارك الصغيرة والسياسات المتضاربة لا تخفي أن بؤرة الصراع الأساسي هي بين أميركا والصين، وأن الأمر كان بالنسبة لصانع السياسة الأميركية أمراً حتمياً منذ سنوات، حيث قامت الاستراتيجية الأميركية على أساس التوجه نحو الشرق ومحاولة حصار التمدد الصيني الكبير، لكننا الآن أمام حلقة أخرى من هذا الصراع، وأمام أميركا أخرى وصين جديدة، وأمام مرحلة يبدو فيها الطرفان وكأنهما يتبادلان الأدوار. أو السياسات!

أميركا عاشت - منذ أنهت عزلتها - وهي تقود العالم الغربي، وتوسع نفوذها بقدر المستطاع، ومع توسيع النفوذ تتعاظم المسؤوليات. ولكن أيضاً تتضاعف المصالح والأرباح السياسية والاقتصادية، بهذا خاضت الحرب الباردة وساعدت أوروبا لتكون الحليف الأكبر والسد أمام توسع السوفييت، وبهذا كسبت الحرب الباردة، ومدت نفوذها لأنحاء العالم وأقامت قواعدها العسكرية حيثما أرادت، وفرضت قواعد اللعبة من خلال المؤسسات الدولية التي سيطرت عليها. ورعت نظام التجارة الحرة مستهدفة تكريس تفوقها الاقتصادي والتكنولوجي، وسط آمال بأن يكون انتصارها في الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفييتي هو «نهاية التاريخ» بمعنى أن تكون زعامتها التي تكرست للعالم هي زعامة أبدية لا ينازعها فيها أحد!

في المقابل. كانت الصين تمضي ببطء ولكن بثقة في بناء نهضتها الحديثة. وكانت تزاوج في تجربة فريدة بين نظام شيوعي تمسكت به، وبين تجربة رأسمالية فتحت فيها بعض مناطقها للاستثمار العالمي مستفيدة من الأيدي العاملة الرخيصة والمؤهلة، ومن جهدها لنقل أحدث التكنولوجيا العالمية، ومن جاليات صينية فتحت لها أبواب دول آسيا، ومن تنظيم محكم لكل إمكانياتها البشرية والمادية من أجل تنمية مستدامة بمعدلات هائلة.

في المقابل ما زالت الولايات المتحدة الأميركية هي القوة الأعظم اقتصادياً وعسكرياً، وما زالت سطوتها السياسية هائلة، ولكنها تجد نفسها أمام تحديات هائلة للحفاظ على هذا التفوق، صورة العالم التي بنتها بعد سقوط الاتحاد السوفييتي تتهاوى أمامها، اكتشفت أن «التاريخ لم ينته» كما توهم البعض، عادت روسيا من فوضى الانهيار لتصبح مرة أخرى دولة عظمى تؤكد نفوذها ومكانتها يوماً بعد يوم، وخرجت الصين من حالة «التقوقع» التي استفادت فيها من نظام التجارة العالمية الحرة لتغزو العالم بما فيه أميركا نفسها، ولتنقل المصانع الكبرى إلى أرضها تاركة لأميركا ودول الغرب معالجة مشكلات البطالة عندها!

المفارقة الآن أن كلاً من أميركا والصين تتبادلان الأدوار!! الصين تسعى للحفاظ على حرية التجارة العالمية، لأنه يخدم مصالحها، وتمد خطوط التجارة والتعاون إلى أقاصي الأرض، وتنفق المليارات لكي تعيد طريق الحرير وحزام التجارة عبر 60 دولة في آسيا وأفريقيا، والأهم أنها تبني قوتها العسكرية ونفوذها السياسي.

في المقابل.. تبدو الإدارة الأميركية في حالة اضطراب غير مسبوق. تكتشف أن نظام التجارة الذي اختارته للعالم قد أصبح وبالاً عليها!! وأن مصانعها تنتقل للصين، وأموال الصين هي الدائن الأكبر لها، وبضائع الصين هي الأكثر انتشاراً حتى داخل أميركا نفسها!

الصراع الدائر الآن يمكن أن يقودنا إلى عالم أكثرعدالة واستقراراً، لكن الانسحاب الأميركي «على طريقة سوريا» لا يطمئن أحداً، ولا يمكن لأميركا أن تكون الصين قبل النهضة، ولا يمكن للصين أن تكون أميركا كما توهمها أصحاب «نهاية التاريخ». لعبة تبادل الأدوار لا تصلح للخروج من أزمة فاصلة في تاريخ العالم مفاتيح الحل ستبقى لفترة في أميركا، ولعلها لمصلحة العالم كله لا تضيع مفاتيح الحل!!

* كاتب صحافي