لم تكن رياح حادثة مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في أكتوبر ٢٠١٨م سوى موجة عالية من موجات ارتدادات ما يسمى بـ«الربيع العربي»، الذي كان قد ضرب عدة عواصم عربية في العام ٢٠١١م، الرياح العاتية التي ضربت المملكة العربية السعودية أواخر العام المنصرم جاءت تحمل ذات الأهداف التي ضربت الدول العربية من قبل باستهدافها القيادة السياسية، وإن كان في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا كانت قد ركبت موجة التردي الاقتصادي فإنها في استهدافها للسعودية رفعت قميص خاشقجي.

لكنها التزمت بما كانت عليه في موجة ٢٠١١م باعتمادها على التأليب الإعلامي والتحشيد العاطفي، غير أن الرياض التي كانت قد تعاملت في ٢٠١١م بصرامة سياسية عادت في موجة ٢٠١٨م لذات الصرامة، فالسعودية ترتكز على أرضية صلبة، وتمتلك مقومات الدولة الوطنية الثابتة والقادرة على التعاطي مع هكذا أزمات.

لم تكن موجة تسونامي في ٢٠١٨م تستهدف السعودية وحدها وإن كانت هي حالة الاستهداف الأكثر عنفاً، غير أن الأردن كان واحداً من تلكم البلدان التي عادت إليها رياح ما يسمى بـ«الربيع العربي» وإن كانت بدرجة أقل من تلك التي تصاعدت في السودان، وبلغت الحدود العليا من الاستهداف ببلوغ الاحتجاجات المطالبة بإسقاط النظام السياسي.

وهي ذات الدرجة من الخطورة التي كانت دول أخرى قد وصلت إليها في عام ٢٠١١م، وإن كان مازال النظام السوداني يبدو متماسكاً وقادراً على التعاطي مع الاحتجاجات خاصة مع خطواته نحو محاولة الإصلاح الاقتصادي، حتى وإن كانت تحت ضغط الشارع المحتقن، وما يثير في السودان أن ذات أدوات ما يسمى بـ«الربيع العربي» كانت هي العامل المحرك لدعم تلك الاحتجاجات من ناحية التسخير الإعلامي الممول من النظام القطري.

شبهات تمويل قطر لمنصّات إعلامية ومواقع إلكترونية تحريضية إلى ذروتها، ذلك أنّ قطر تعدّ نفسها مروّجة ووكيلة لأحداث ما يسمى بـ«الربيع العربي»، فعارضت وهاجمت أيّ دولة عربية حاولت لعب دور إيجابي في علاج ما نتج عن هذه الأحداث، وركّزت من خلال منابر ومواقع إلكترونية مختلفة على مهاجمة أيّ خطاب يمسّ شركاءها من جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية.

صحف ومواقع إلكترونية عديدة، تتوزّع مقارّها في دول عربية وغربية، إضافة إلى جمعيات إعلامية وأخرى تعمل تحت غطاء العمل الخيري، يديرها عرب من مختلف الجنسيات، ساهمت في دعم سياسات قطر والدفاع عنها، وترويج خطاب الإخوان، ومنذ العام 2015 كشفت عدة ملفات رعتها قطر في دعمها الإخوان حول العالم.

شكلت مقاطعة قطر في يونيو ٢٠١٧م منعطفاً يمكن وصفه بأنه «حاد» لأن المقاطعة العربية وضعت النظام القطري أمام حقيقة وقوفه خلف كافة الاستهدافات التي تعرضت لها الأنظمة العربية، وأظهرت بجلاء أن النظام القطري يحاول باستمرار عبر ما يمتلك من منصات إعلامية لتمرير أجندة التخريب بدعمه المباشر للتيارات المعادية للسلطة السياسية.

وبالعودة للحالة السعودية تحديداً بعد مقتل الصحفي خاشقجي تظهر بوضوح تلك العلاقة الدافعة للاستهداف عبر جيوش من الذباب الإلكتروني تستهدف بالأساس تكريس المعلومات التي تبثها المنصات الإعلامية الرئيسية (قناة الجزيرة) بنسختيها العربية والإنجليزية في منهجية تثبيت تلكم المعلومات، سواء كانت صحيحة أو مغلوطة.

فهدف تلك الجيوش الإلكترونية يبقى تثبيت المعلومات والتأثير السلبي على معنويات الشعوب، بل قيادتها كقطيع يمكن من خلاله السعي لتنفيذ أجندة إسقاط النظام السياسي، وهذا ما حدث تماماً في التجارب المصرية والليبية والتونسية بشكل مباشر في العام ٢٠١١م.

تكلفة ما يسمى بـ«الربيع العربي» وصلت إلى ما يقارب التريليون دولار ومازال هذا الرقم مرشحاً للزيادة مع تأكيد عودة هذا التسونامي الذي تقف خلفه القوى التوسعية المتربصة بالفراغات في العالم العربي، الذي بدوره لم يستطع عملياً من إعادة تقييم الجامعة العربية وتفعيل دورها.

كما أن الدول المتضررة وتحديداً العراق وسوريا وليبيا واليمن عليها مراجعة موضوعية للدولة الوطنية التي تمزقت ولم تعد عمليات التجميل تفي باستعادة هذه الدول لدورها كدول قادرة على التماسك الداخلي نتيجة تفكك النسيج الاجتماعي بعد تهتك النسيج السياسي.

بتنا اليوم ندرك أكثر من أي وقت آخر بأن المعالجات يجب أن تنطلق من تقوية الدولة الوطنية من خلال المؤسسات والدستور وتفعيل الأنظمة الاقتصادية المنتجة، فيما لن تتوقف قطر في تأجيج الصراعات خدمة للتوجهات الإيرانية وكذلك التركية.

ولذلك ستظل موجات «تسونامي الربيع العربي» مستمرة في المنظور القريب، وهو ما يستدعي تحصين للدول العربية من داخلها والانفتاح السياسي مع بناء استراتيجية محورها دول الاعتدال السعودية والإمارات ومصر تهدف لمواجهة المخاطر المُحتملة في إطار مكافحة الإرهاب الذي يجد في الدوحة كل الرعاية والاهتمام بالمتطرفين والحالمين بمشاريع الخراب والدمار.