يرد بين الحين والحين في بعض الكتابات السياسية مصطلح «نظام عالمي جديد» حين يطرأ تغيير هام في سياسة أو مواقف بعض الدول العظمى، ما يثير الإرباك والالتباس حول مدى صواب استخدام هذا المصطلح في مناسبات كهذه، فمن الصعب أن يهتز النظام العالمي أو يتغير بهذا القدر من السهولة.

«النظام العالمي» مصطلح في غاية التعقيد يطلق على النمط السائد في العلاقات الدولية التي تزداد تعقيداً مع التطورات السريعة في جميع نواحي الحياة والتي ترسمها التوازنات السياسية المعقدة التي تنبثق عن الدور الذي تلعبه مختلف دول العالم من خلال قدراتها اقتصادياً وعسكرياً ومن خلال العلاقات التي تربطها وفي الاتفاقيات التي تقيمها على مختلف الأصعدة.

ورد مصطلح «النظام العالمي» في العديد من الوثائق الهامة أبرزها المبادئ الأربعة عشر التي أصدرها الرئيس الأمريكي الثامن والعشرين وودرو ويلسون في أعقاب الحرب العالمية الأولى، حيث أصبح من الضروري صياغة معالم نظام يلتزم به لتلافي الصدامات والحروب حين أصبح التواصل ممكناً وسهلاً بين كافة أرجاء المعمورة بفعل التقدم التكنولوجي.

إلا أن الجوهر الأصلي لهذا النظام يرجع إلى ما يعرف بـ«صلح ويستفاليا»، حيث ولد أول نظام إقليمي في أوروبا عند التوقيع عام 1648 على اتفاقيتين أنهيت بموجبهما حرب الثلاثين عاماً في الإمبراطورية الرومانية، وحرب الثمانين عاماً بين إسبانيا ومملكة الأراضي المنخفضة. ويعتبر هذا الصلح أول اتفاق دبلوماسي في العصور الحديثة يرسي نظاماً جديداً في أوروبا الوسطى ينص على مبدأ سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الذي أصبح فيما بعد مبدأ أساسي في النظام العالمي.

النظام العالمي الذي نعيش في ظلاله يستند إلى مؤسسات تعمل على إدارته وإدامته وعلى التحكم في مفاصله، مؤسسات لها قوانين تسمح لها بالتكشير عن أنيابها ومخالبها في مراحل معينة من متابعة قضية معينة. فهناك مؤسسات مالية تتحكم بالاقتصاد العالمي ومؤسساته المصرفية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي وهناك مرجعيات سياسية يحتكم إليها في حل الإشكالات وفض النزاعات بين الدول وهناك آليات لكل ذلك وهو مجلس الأمن الدولي وهناك مؤسسات ثقافية وصحية وتنويرية تعمل في إطاره وهناك مواثيق شرعت للحفاظ على السلم في العالم. معالم النظام العالمي الحالي يرسمها ميثاق الأمم المتحدة الذي انبثق بعد الحرب العالمية الثانية التي أفرزت القوى الأساسية التي لها الهيمنة العسكرية والسياسية على نمط السياسات القائمة في معظم مناطق العالم وما يرتبط به من اتفاقيات ومعاهدات وما يستجد في المستقبل من قضايا وهي الدول الخمسة الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن الدولي. هذا النظام ينضوي تحته 193 دولة هي الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة ودولتان أخريان عضوان بصفة مراقب هما فلسطين والفاتيكان.

هناك تغيرات هامة طرأت على العلاقات الدولية في إطار النظام العالمي القائم ولكنها لم تمسّ أسس النظام، فهناك حروب حصلت وأزمات إقليمية انبثقت ودول تفككت وأخرى ولدت في ظلاله. ونشهد الآن مع مجيء الرئيس ترامب للبيت الأبيض بداية إرهاصات سياسية دولية تطفو على السطح وتزايدت التساؤلات حول مستقبل حلف الناتو ومستقبل الشراكة بين ساحلي الأطلسي، فهناك أزمات تغلق ملفاتها وأزمات أخرى تبرز للعيان متحدية أواصر العلاقات التي نسجت في أطر الثقافة والتقاليد الغربية التي نشأت وتقوت على مدى عشرات السنين.

أبرز ما طرأ من تغيير في العلاقات الدولية في إطار النظام العالمي الحالي منذ نشأته هو انهيار الاتحاد السوفييتي مطلع تسعينيات القرن المنصرم وانتهاء الحرب الباردة، حيث لم تعد الدول تتخندق مع الغرب أو مع الشرق أو تبقى في خندق عدم الانحياز، وأصبحت الولايات المتحدة الدولة العظمى الوحيدة في العالم. إلا أن ذلك لم يغير من المعالم الرئيسية للمؤسسات التي تتحكم وتدير النظام العالمي، فميثاق الأمم المتحدة لم يطرأ عليه تغيير وبقي مجلس الأمن الدولي بكامل صلاحياته، حيث أبدل اسم الاتحاد السوفييتي بالاتحاد الروسي وبقيت المنظمات التابعة للأمم المتحدة والاتفاقيات المنبثقة عنها على حالها واستمرت المؤسسات التي تدير وتتحكم بالاقتصاد العالمي هي الأخرى على حالها لم تتغير أو تعيد النظر باستراتيجياتها. من هذا المنظور يصبح الحديث عن نظام عالمي جديد كلما طرأت بعض الأحداث في العالم أمراً ينبغي التحفظ عليه.

 

 

* كاتب عراقي