رغم كل المتاعب التي يتعرض لها الرئيس الفرنسي ماكرون، والمستشارة الألمانية ميركل، في مواجهة الصراعات الداخلية في البلدين، فقد مضى الاثنان في الطريق الذي يسعيان إليه منذ فترة، وقاما بالتوقيع في الأسبوع الماضي على معاهدة جديدة للتعاون الاستراتيجي بين الدولتين الأساسيتين في أوروبا.
المعاهدة تشمل كل الجوانب العسكرية والسياسية والاقتصادية وغيرها، والهدف من البداية، كما حددته المعاهدة، تمكين الدولتين من أن تكونا أكثر استعداداً للتحديات التي تواجههما في القرن الواحد والعشرين.
التوقيت مهم.. فالمعاهدة يتم توقيعها في قلب تداعيات أزمة «البريكست»، وما تطرحه من أسئلة حول مستقبل الاتحاد الأوروبي، وهي تجيء أيضاً قبل شهور من انتخابات البرلمان الأوروبي، التي يتوقع أن تعكس الصعود الكبير لليمين الشعبوي، الذي يحاول ثنائي ماكرون وميركل مواجهته، كممثلين للتيارات المعتدلة، والحريصة على الوحدة الأوروبية.
لكن الأمر يتجاوز بالقطع التحديات الداخلية في فرنسا وألمانيا، أو في دول الاتحاد الأوروبي، إلى ما هو أخطر بالتأكيد، فأوروبا التي جربت الدمار في حربين عالميتين، قبل أن تسير في طريق المصالحة والوحدة. تخشى الآن من الأسوأ، وتقرأ الأحداث بخبرة سنوات الدم والحروب، وتتحسب لسنوات مقبلة، لم يعد يكفي لمواجهتها الاتحاد الأوروبي بصيغته الحالية، ولا حلف «الناتو»، في ظل غياب محتمل للمشاركة الأمريكية.
ومن هنا، كانت الدعوة المثيرة للجدل، التي أطلقها الرئيس الفرنسي ماكرون، من أجل إنشاء قوة عسكرية أوروبية موحدة، لمواجهة المخاطر التي حددها في روسيا والصين، و.. أمريكا! وهو ما أدخله في خلاف علني، وتصريحات متبادلة مع الرئيس ترامب، الذي رأى في ذلك إهانة لا تغتفر، والتي تحول بعدها ماكرون من مشروع حليف للرئيس الأمريكي، جاء مثله من خارج الحياة الحزبية. إلى مناوئ للسياسة الأمريكية، ومدافع عن الوحدة الأوروبية، التي لا يستسيغها ترامب، ومناهض لليمين الشعبوي الذي يراهن عليه ترامب في أمريكا وخارجها.
والمثير في الأمر، أن كل الدلائل كانت تقول إن آمال ماكرون وميركل في أوروبا أقوى، تتهاوى، وأن الظروف بعد البريكست تختلف، وأن المتاعب الداخلية في فرنسا وألمانيا، ربما تصرف الأنظار عن أي سعي لخطوات أكبر للعمل المشترك بين الدولتين. فماكرون يواجه ظاهرة «الستر الصفراء»، وتداعياتها الاقتصادية والسياسية. وميركل تواجه تحديات داخلية، أرغمتها على إعلان تخليها عن الحكم بعد عامين.
لكن ميركل وماكرون، أقدما على توقيع المعاهدة، مع كل التحديات التي ترافقها. مراهنين على أن القوة الاقتصادية الألمانية، مع القوة السياسية الفرنسية، يمكن لهما أن تصنعا معاً قطباً يعتد به في العالم.
وما يهمنا هنا، هو أن نكون حاضرين في عالمنا العربي في هذا التطور المهم، وأياً كان المسار الذي ستمضي فيه هذه الخطوة، فإن علينا أن نتلقى الرسالة، وأن نتعامل معها بكل جدية.
والرسالة تقول بكل وضوح، إن دولتين بحجم كل من ألمانيا وفرنسا، تدركان أن التحديات التي تفرضها الأوضاع العالمية المرتبكة، والتطورات المتسارعة في عالم يبحث عن نظام جديد.. هي تحديات تفوق قدرة كل منهما على المواجهة، وتفرض عليهما هذه الشراكة الاستراتيجية، التي يريان فيها الأمان في مواجهة المخاطر، والقوة على صنع المستقبل.
والرسالة تؤكد مرة أخرى ما تعلمناه مؤخراً في عالمنا العربي، بعد التجارب الأليمة، وهي أنه لا بديل عن القوة الذاتية لدفع المخاطر، وتأمين الحاضر والمستقبل، لم يأبه الطرفان «الفرنسي والألماني»، بالغضب الأمريكي، ولا بزيادة العداء الروسي، وأدركا أن «الناتو» في ظل قيادة ترامب لأمريكا، لا يمكن أن يكون بديلاً عن قوة عسكرية مشتركة، قد تتوسع لتشمل باقي دول أوروبا.
والرسالة أيضاً تقول إن صفحة العداء التاريخية بين البلدين، قد انتهت للأبد، وأن الدولتين الآن توحدان الجهد في مواجهة المخاطر، وأنهما يتحسبان لصراع عالمي يزداد احتداماً، ولا يريدان لأوروبا أن تكون ميداناً لهذا الصراع، بعد أن جربا ذلك، ودفعا مع العالم كله الثمن الفادح في حربين عالميتين مدمرتين.
والرسالة أيضاً تقول إن صناعة المستقبل، تفرض توحيد الجهد، تحت مظلة العلم وثقافة الحرية، وبعيداً عن التطرف والعنصرية، وأن أوروبا التي شبعت من الحروب، وارتوت أرضها بدماء عشرات أو مئات الملايين، قد تعلمت الدرس، الذي ما زال علينا في العالم العربي أن نتعلمه!!
نعم.. في عالمنا العربي، يتزايد اليقين بأن من يحتمي بالقوى الخارجية واهم، وأن من يتغطى بأي من هذه القوى، سيكتشف في لحظة، الحقيقة أنه عريان!! وأنه لا بد من القوة الذاتية لكي تؤمن الاستقرار، وتحمي الاستقلال والتقدم، وتحصن الوطن الذي لا يعترف به إخوان الإرهاب، أو عملاء تصدير الفتنة.
لكن الأهم الآن، أن يقودنا ذلك إلى رفض أن تكون الأرض العربية ساحة لمعارك الآخرين، وللحروب بالوكالة، أو بالأصالة أو بالإرهاب!!
لا يمكن أن يستمر شعب اليمن الشقيق في دفع فواتير أوهام إيران وخيانة الحوثيين.
ولا يمكن أن تستمر ليبيا ساحة لصراعات من يزرعون الإرهاب، ليستولوا على ثروات ليبيا، ويصادروا مصيرها. ولا يمكن أن تستمر سوريا والعراق رهينة في يد إرهاب منحط وعميل للقوى الخارجية، التي تتصارع على أرضنا، ومن دماء شعوبنا.
رسالة أدركتها دول التحالف العربي الرباعي، وهي تقاتل الإرهاب، وترفض التدخل الأجنبي، وتتصدى لمن يريدون هدم الدولة الوطنية، واستباحة الأرض العربية، ومن يسخرون ثروات الوطن في خدمة الإرهاب.. كما يفعل حكام الدوحة (!!)، أو من يسعون لمد نفوذهم على حساب العرب، في طهران أو أنقرة أو تل أبيب (!!)، أو من يديرون «اللعبة»، ويستخدمون هؤلاء في صراعاتهم الأكبر.. والأخطر!!
رسالة المعاهدة الألمانية الفرنسية الجديدة، هي أن المقبل أخطر على العالم كله، وأن توحيد الجهد ضروري لمواجهة التحديات.. ولسنا في عالمنا العربي بعيدين عن كل ذلك!!