تطورت نظرية اقتصاد الابتكار في العقود القليلة الماضية فقط، وجاء هذا التطور تلبية لدواعي تطور التكنولوجيا الرقمية، خاصة الذي صاحب عصر المعرفة وغير كل شيء، فبدلاً من الرؤية الاقتصادية القديمة للابتكار بأنه قوة مستقلة صار الابتكار- وفقاً لأعراف عصر المعرفة- مبدأ أساسياً ينبغي تشجيعه من خلال سياسات الحكومة ودعمها بالمعرفة والتكنولوجيا وريادة الأعمال، إلى جانب تطوير شراكات فعالة بين القطاعين العام والخاص، لتحفيز الابتكار والإنتاجية المتزايدين، ليصبح تحفيز هذه العوامل بالضرورة هدفاً رئيساً للسياسة الاقتصادية للحكومات.

إن اعتماد الشركات الحديثة على الكفاءات الأساسية أو إجراء تحسينات تدريجية للحفاظ على ميزة المنافسة لا يمكن أن يصنع نجاحها لأن ما يتطلبه عصر المعرفة هو التركيز على الابتكارات لا سيما الابتكارات القاتلة، وهذا هو أساس «الاقتصاد الجديد»، أما المتشبثون بالطرق القديمة لممارسة الأعمال بعيداً عن مناهج الابتكار فهم متخلفون حتماً عن الركب.

إن اقتصاد الابتكار يحول تركيز المجتمعات حول العالم، وبدلاً من الاقتصادات، التي تركز على تطوير وتوزيع سلع ثمينة من الموارد النادرة، فإن الهدف الجديد للمجتمع هو زيادة نوعية الحياة للجميع وتوسيع الثروة، من خلال تطوير نماذج أعمال ومنتجات وخدمات جديدة وأشكال من الإنتاج يتساوى في حق المشاركة فيها الجميع.

بدأ الابتكار في صناعة التكنولوجيا وسرعان ما تكاثف في قطاعات أخرى من الاقتصاد، وبفضل القدرات التكنولوجية المحسنة، وقواعد المعرفة التي يمكن الوصول إليها عالمياً، وعالم العولمة، تمكن الأفراد والشركات من إنشاء منتجات وخدمات أكثر فعالية لتحسين حياة الناس.

ولإنشاء اقتصاد يقوم على الابتكار فإن ذلك يتطلب التفكير خارج الصندوق والتحدي المستمر والبحث عن الحلول لكل ما يعتبر مشكلة. إن المنافسة تفرض على المؤسسات الالتزام بتلك المتطلبات كما تفرض عليها أيضاً أن تكون أكثر مرونة، وتشجع على قدر أكبر من الإبداع والبراعة، والتكيف بسرعة مع متطلبات السوق، بل لقد أجبر اقتصاد الابتكار الشركات على أن تكون في حالة نمو مستمر، فالابتكار يرى أن ثمة دائماً شيئاً جديداً للتعلم أو طريقة للتحسين.

يقف اقتصاد الابتكار ليجعل موجات هائلة وبعيدة المدى في عالمنا. لقد غيرت الابتكارات التي تحققت خلال العقود القليلة الماضية وحدها الطريقة التي نعيش بها حياتنا، والطريقة التي نؤدي بها أعمالنا، والطريقة التي نستهلكها، والطريقة التي نتواصل بها مع الآخرين، وما نقدره. جعل هذا النوع من الاقتصاد حياتنا اليومية أسهل وأكثر ملاءمة، وخلق طرقاً أسرع وأفضل للقيام بكل شيء تقريباً، ما يعني أن الناس لديهم المزيد من الوقت لفعل ما يريدون ومزيد من المال للحصول على خدمات أفضل وبعبارة أخرى، نحن قادرون على العيش حياة أفضل.

إن التأثير الذي فرضه اقتصاد الابتكار على الحياة لم يقتصر على قطاع الشركات التجارية فحسب فقد فرض تغييراً ملموساً على أنظمة التعليم وأثر على اختيارات الناس للتخصصات العلمية، فالتوجه التعليمي الذي ساد طيلة عقود مضت كان يدور في فلك الفنون والعلوم الإنسانية إلا أن الابتكار فرض رؤية جديدة للعالم تشدد على أن تنفيذ الأفكار الإبداعية التي أنتجها ذلك التوجه التعليمي طيلة قرون مضت يحتاج اليوم إلى العلماء والباحثين وعلماء الرياضيات والمبرمجين والمهندسين والكيميائيين وما إلى ذلك، أي أنه يفرض بالضرورة توجهاً تعليمياً بشكل أكبر مما سبق نحو هذه العلوم التطبيقية وكنتيجة طبيعية فقد فرض هذا التحول في القيمة بالتالي تحولاً في الطلب والمرتبات.

وفرض اقتصاد الابتكار إضافة لتوسيعه لدائرة التخصصات العلمية ومجالات التعليم على الأفراد الالتزام بالتعلم مدى الحياة، كما لم يحدث في أي زمن من قبل، فذلك أمر ضروري للغاية.

ومما يفرضه اقتصاد الابتكار أيضاً على المنظومة التعليمية ومناهجها التقليدية السائدة التوجه نحو المناهج التعليمية التي تعزز التفكير النقدي والعمل الجماعي، أما المنهج القائم على التلقين وحفظ المعلومات ثم إفرازها، فذلك مما يتنافى مع طبيعة الابتكار كلية.

إن التحضر والاستعداد لاقتصاد قائم على الابتكار يتطلب من الطلاب والمؤسسات التعليمية دراسة المشاكل الحقيقية في العالم والتفكير في حلها، بدلاً من الاعتماد فقط على الاختبارات كما يجب التركيز على العروض التقديمية، والعمل في مجموعات، وتعلم التفكير خارج الصندوق.

ولا تختلف هذه المبادئ إطلاقاً على التعلم في مكان العمل عموما، إذ يجب على عمال اليوم الاستعداد الدائم للتأقلم والتعلم والنمو مع صناعاتهم. وهذا ما يجب أن تفهمه الشركات عموماً حيث ينبغي عليها أن تشجع فرقها على المشاركة في فرص التدريب والتطوير المستمر للمهارات.

أخيراً يمكن القول إن عصر المعرفة يؤكد أن الجميع متساوون في التعلم المفضي إلى الابتكار، ولهم الحق الكامل في التنافس مع الآخرين في هذا الاقتصاد الجديد بلا تحفظات أو قيود، وللحديث بقية.