أربعون عاماً تكملها الثورة الخمينية الإيرانية، منذ وصول الطائرة الفرنسية التي حملت الخميني لمطار طهران عام 1979م، ليؤسس ما سماها «الجمهورية الإيرانية الإسلامية»، ويقود ثورة غيرت معالم العالم، وتكون واحدة من أهم متغيرات القرن العشرين، إضافة لتلك الأحداث الكبرى التي عرفها ذلك القرن من الحربين العالميّة الأولى والثانية، وظهور الاتحاد السوفييتي والثورة الصناعية، أربعون عاماً من إيران، كانت عنصراً فاعلاً في المشهد الدولي، وما زالت، بكافة ما حملته تلك العقود الأربعة من مواجهات، غيرت ملامح الشرق الأوسط، وصنعت توازنات مختلفة عما قبل الثورة الخمينية.
لم يكن شاه إيران محمد رضا بهلوي نموذجاً سياسياً جيداً، على الأقل لجيرانه العرب، فلقد كان يحمل مطامع التوسع ونبرة الاستعلاء، وادعاءه أنه يمثل (شرطي الخليج)، الأهم أن سقوط الملكية الإيرانية، كان حدثاً كبيراً، فالقادم لم يكن بنمطية الحكم القائمة، فعلى غرار إسرائيل، التي ترتكز في حكمها على الأيدلوجية الدينية، ظهرت الثورة الخمينية في إيران، صنع الخميني من الأيدلوجية الدينية نواة الثورة والدولة، واستدعى من التاريخ الإسلامي صراعات وأزمات، وعمل على توظيفها بعد قرون من حدوثها، هذه الحالة الفريدة صنعت إيران الحديثة، وهي أسوأ ما يمكن أن تقوم عليه الدول عبر الخصومات والنزاعات الدينية، والاستثمار في مجاهيل التاريخ، للحصول على مكتسبات سياسية.
انتهز الخميني واحدة من كثير إخفاقات العرب، فلم يكن تحييد مصر من الجامعة العربية غير واحدة من تلك الإخفاقات، فالتقط الخميني القضية الفلسطينية، واستطاع منذ بداية الثورة، أن يزرع في لبنان بذور الخمينية، وبينما كان العراق يخوض الحرب الطويلة مع الأصولية الإيرانية، كان الإيرانيون ينشئون المراكز الثقافية في معظم العواصم العربية والعالمية، هذه واحدة من أهم الأدوات التي أسهمت في استقطاب البعض لإيران، التي كانت تجيد تسويق الخمينية، بادعاءات أنها مناصرة للمظلومين ومدافعة عنهم، وأنها تحمل المبادئ الإلهية لمناصرتهم.
لم يخفِ الخميني منذ اللحظة الأولى لحكم إيران، أهدافه التوسعية، وإذا كان الشاه انطلق برغبات قومية فارسية، فإن الخميني انطلق برغبات أيديولوجية، منحته اتساعاً في المنطقة العربية، فحتى العراق، وهو يصارع الخمينية في حرب الثماني سنوات، كان يدرك تمام الإدراك هذا المضمون في المواجهة، فالعراق كان يرفض منح إيران منازلة غير تلك، فلم يسمح لتمرير الأجندة الطائفية، وظل متمسكاً بالعروبة، في مقابل الفارسية، وإن تأدلجت، فحساسية الصراع كانت لا تقبل الأخطاء، وما حدث بعد سقوط نظام صدام حسين في ٢٠٠٣م، يؤكد ذلك تماماً.
تحالفت الخمينية مع كافة الحركات الإسلاموية السنية المتطرفة، ولقد أسهمت العلاقة التاريخية بين الخميني وجماعة الإخوان المسلمين، في تأطير هذه العلاقات الناشئة على مشترك، برفض الولاء للدولة الوطنية، لذلك، لم يكن مستغرباً أن ترحب إيران باغتيال الرئيس المصري الراحل أنور السادات عام ١٩٨١م، وهذه واحدة من أدق الحوادث التي تدلل على ارتكاز علاقات جماعات الإسلام السياسي السنية والشيعية، على حد سواء، على معاداة الدولة الوطنية في العالم العربي، لذلك، لم تكن علاقات التنظيمات الجهادية الراديكالية بعيدة عن إيران، فمن تنظيم القاعدة إلى تنظيم داعش، وحتى الذئاب المنفردة، كلها لا ترى في الخمينية عدواً، بمقدار ما ترى في الدول العربية عدواً لها.
استفادت إيران من تبعات غزو العراق لدولة الكويت عام ١٩٩٠م، وظهرت المخالب الإيرانية وهي تفتك بالعراق، بعد سقوط النظام السياسي في ٢٠٠٣م، وجاء تحذير ملك الأردن عبد الله الثاني، عابراً لكل العالم العربي من تشكل (الهلال الشيعي)، فلم يكن صعود حزب الله في لبنان، وتغوُّله السياسي في هيكل مؤسسات الدولة اللبنانية، سوى تأكيد على أن الإيرانيين ينتظرون ساعة الصفر، التي تحققت في ٢٠١١م، لتصل مخالبهم إلى سوريا، ويمتد نفوذهم السياسي والعسكري إلى البحر الأبيض المتوسط، وإن كادت البحرين أن تسقط، لولا استجابة درع الجزيرة، الذي أبقى على عروبة البحرين.
أربعون عاماً من تصدير الخمينية إلى العالم، أربعون عاماً من تصدير الكراهية والأزمات والاستثمار في خراب الأوطان، أربعون عاماً، أنفقت فيها إيران مليارات الدولارات، في سعيها للتوسع والانتقام من مواريث التاريخ، أربعون عاماً من التحالفات المدمرة، ومن استغلال المواقف وانتهازية للفرص بين جماعات الإسلام السياسي بمختلف أطيافها ومذاهبها، جمع بينها العقلية المأزومة ورفض الآخر، أربعون عاماً من الفكر الخميني المتصلب، الذي جوّع الشعب الإيراني، وأعاده إلى القرون الوسطى، فلا حضارة الفرس يمكنها أن تعود، ولا يمكن أن تتقدم إيران بأفكار السراديب.