تجد الولايات المتحدة نفسها في حقبة الرئيس ترامب غارقة في خضم صراعات لم تعتدها من قبل، لأنها المبادرة في إذكاء بعضها، سواء مع خصومها أو مع حلفائها بدرجات متفاوتة وعلى جبهات مختلفة. ولسنا مغالين حين نقول إن هذه الإدارة على خلاف جميع سابقاتها متمردة على النظام السياسي القائم في الولايات المتحدة نفسها وعلى النظام العالمي الذي لعبت واشنطن دوراً مهماً في صياغته وفي إرساء قواعده منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. فهي ترى في المنظمات الدولية التي هي عضو رئيسي فيها وعلى رأسها حلف الناتو، وفي الاتفاقيات التي أبرمتها على المستويين الإقليمي والدولي، أعباء تثقل كاهل اقتصادها وتضعف من دورها على المستوى العالمي.
رئيس الدولة، أية دولة، أكبر كثيراً من مجرد كونه أعلى مسؤول تنفيذي فيها، فهو رمز لأمته وما تحمله من قيم وأحلام أمام العالم، الرئيس في دولة بحجم الولايات المتحدة رمز للأمة الأمريكية وقدراتها ودورها على المسرح الدولي. في هذا السياق، يتفوق الرئيس دونالد ترامب على سلفه الرئيس الأسبق رونالد ريغان في حجم تحركه وحجم إشغاله الساحة الدولية بطروحاته اللاتقليدية فشخصيته الاستثنائية تضفي بخطابها سمات مميزة على حقبة رئاسته.
منذ قام سيغموند فرويد بتحليل سيرة حياة وفن ليوناردو دافنشي عام 1910 بدأ علماء النفس بتسليط عدساتهم النفسانية على المشاهير في العالم باستخدام الأدوات المتوافرة لديهم، والتي تطورت بشكل سريع منذ ذلك الحين. ومع أن دراسات تحليلية عديدة صدرت عن الرؤساء الأمريكيين بعد نهاية رئاساتهم، إلا أن الاهتمام بشخصية الرئيس ترامب قد بدأ باكراً قبل تبوئه لمنصبه ولا تزال تنشر بين الحين والآخر دراسات نفسية ومجتمعية عن ماضيه وحاضره وهي تحليلات يهتم بها كثيراً رؤساء الدول الأخرى للتعرف على احتمالات المسارات السياسية لإدارته.
الرئيس ترامب على قناعة بأنه غير مدين لأحد بنجاحاته في مسيرته السياسية، إذ ليس لديه علاقات ودية مع الإعلام، وهو لم يتقدم للرئاسة مرشحاً عن أحد الحزبين، بل فرض نفسه بقوة على المشهد السياسي، واضطر الحزب الجمهوري لقبوله مرشحاً عنه بعد أن فشل مرشحوه الآخرون في الصمود على المسرح الانتخابي في مواجهته ليخلو له الطريق للوصول إلى البيت الأبيض لتنفيذ ما وعد به وليصطدم هنا أو هناك بعقبات بسيطة أو كبيرة. فالحروب التجارية التي أعلنها لم تقتصر على خصومه أو منافسيه، بل شملت دولاً من أقرب حلفائه وهو لا يتردد في استخدام لغة الأمر والابتزاز معا في مخاطبة هؤلاء.
الرئيس ترامب يرى بأن بلاده لا تتمتع على أرض الواقع بنفوذ على مسارات الأحداث في العالم، بالقدر الذي يتناسب مع قوتها العسكرية ومع ثقلها الاقتصادي ومع دورها المتميز في التطور العلمي والتكنولوجي والطبي، الذي يجني ثماره الجميع، أصدقاء وخصوماً. فهو لا يخفي بأنه لا يطيق رؤية دول صغيرة تجد في حيثيات النظام العالمي القائم وثغراته متنفساً يسمح لها بالتمرد وتحدي الأسرة الدولية التي تتزعمها واشنطن، ولا يطيق وجود قيادات تتحدى إرادة بلاده.
مدخل الرئيس ترامب لمعالجة هذا الخلل! حسب ما أعلنه في حملته الانتخابية هو العمل وفق شعار «أمريكا أولاً» وهو شعار لا يلقى اعتراضاً من أي مواطن أمريكي في الولايات المتحدة أو خارجها، أو غير أمريكي في أي بلد آخر، لأن من أولويات المسؤول الأول في أية دولة وضع مصالح بلده نصب عينيه بالدرجة الأولى.
ولتحقيق أجندته السياسية وفق هذا الشعار تبنى الرئيس ترامب مقاربات اقتحامية غير مألوفة في السياقات السياسية وخاصة إزاء رعايا بعض الدول التي استهدفها بقراره بعدم السماح لهم بدخول الولايات المتحدة في قضية أثارت الرأي العام وبضمنه القضاء الأمريكي لعدم دستوريتها وهو مما يدعو للتساؤل عما طرأ من تحول يسمح للرئيس الأمريكي التجرؤ على اتخاذ قرار ضد التقاليد الأمريكية التي صنعت ما اصطلح على تسميته «الحلم الأمريكي».
سنتان مرتا منذ أشغل الرئيس ترامب المكتب البيضاوي في البيت الأبيض، ملفات التحديات التي يواجهها والأخرى التي فرضها على الآخرين كثيرة ولا تزال مفتوحة في انتظار الحسم، أبرزها ملفا كوريا الشمالية وإيران أضيف إليهما أخيراً الملف الفنزويلي.
* كاتب عراقي