تتيح الذكرى الأربعون لما تسمى الثورة الإيرانية فرصة جديدة لاستخلاص الدروس. تتكون لدى الشعوب في لحظة الثورة آمال عريضة، فيتصور كل صاحب مظلمة أن في الثورة حلاً لمشكلاته، يظن من يعانون الاستبداد أن الثورة ستجلب لهم الحرية، ويظن من يعانون الفقر والحاجة أن الثورة ستشق لهم أنهار اللبن والعسل، ويظن من يشكون الفساد والتلاعب بالمال العام وسوء إدارته أن الثورة ستقضي على الفاسدين لتبني عالماً يسوده الطهر والنقاء، لم يحدث شيء من هذا في الثورات المعروفة لنا، ربما تحسنت بعض الأمور هنا وهناك، لكن الثورة لم تنقل بلداً من حال إلى حال بشكل جذري.

كانت فرنسا كبيرة قبل الثورة، وظلت كبيرة بعدها، الثورة الصينية غيرت بعض الأشياء في الصين، لكن الانطلاق الكامل للصين لم يتحقق إلا بعد أن تخلى قادة الحزب الشيوعي عن الثورة وأوهامها، وركزوا بدلاً من ذلك على الإصلاح والبناء. كان إيران بلداً متوسطاً في القوة والتنمية قبل الخميني، وظل بلداً متوسط القوة والتنمية بعده.

لا الحرية ولا النمو الاقتصادي أو العدل الاجتماعي، بل تبديل النخبة الحاكمة، هو النتيجة الأهم للثورة، هذه هي الحقيقة المستترة والمفارقة الكبرى في عالم الثورات. الثورة فعل جماهيري يشارك فيه مئات الآلاف من الناس، لكن بعد انقشاع الغبار يعود الناس لبيوتهم، سواء اختاروا ذلك أو تم إجبارهم عليه، ولا يبقى في صدارة المشهد سوى الطبقة الحاكمة الجديدة.

النوع الوحيد من الثورات الذي تتوافر فيه شروط الأصالة والصدق هو الثورة الوطنية، عندما ينتفض الشعب ضد الحكم والاحتلال الأجنبي، أما ما عدا ذلك من الثورات فهو صراع على السلطة بين نخب سياسية متنافسة، يستخدم فيه المواطنون البسطاء وقوداً لصراعات النخب. الثورة بهذا المعنى هي إحدى لحظات الخداع الكبرى في تاريخ الأمم.

ما تسمى الثورة الإيرانية هي أكبر عملية خداع ثوري في التاريخ، شارك عديد الفرق السياسية فيها، كان هناك وطنيون ليبراليون وشيوعيون ويساريون وإسلاميون، لكن التنظيم العلني والسري للملالي كان الأكثر انضباطاً وإحكاماً وطاعة لقائده الخميني.

تم رفع الشعارات والمطالب الوطنية والليبرالية واليسارية، فيما حرص الملالي على تجنب رفع الشعارات الدينية. شعارات الحرية والتنمية والعدالة الاجتماعية والاستقلال عن التبعية للغرب كانت هي السائدة، وكانت هي الأجندة التي خرج الناس من أجلها، فيما كان الملالي يضمرون أهدافاً أخرى.

حزب الجبهة الوطنية كان هو الواجهة الأهم والأشهر للثورة الإيرانية، بسبب ارتباط الحزب برئيس الوزراء محمد مصدق. أسس مصدق حزب الجبهة الوطنية ممثلاً للتيار الوطني الليبرالي، وانتخب رئيساً لوزراء إيران مرتين في عامي 1951 و 1953، قبل أن يتم الانقلاب عليه.

أدخل محمد مصدق عديد الإصلاحات الاجتماعية والسياسية، لكن قيامه بتأميم صناعة النفط كان هو الإجراء الذي وحّد ضده معارضيه الداخليين والخارجيين. مات محمد مصدق عام 1967 لكنه بقي الرمز الأهم للإصلاح في إيران، وبقي حزبه أشهر تنظيمات المعارضة الإيرانية حتى بعد وفاة مصدق بسنوات.

عندما يئس الشاه محمد رضا بهلوي من إمكانية مواصلة البقاء في الحكم، وأدرك أن عليه مغادرة المشهد، فإنه لم يجد أمامه سوى شابور باختيار، أحد وزراء حكومة محمد مصدق وأحد قادة حزب الجبهة الوطنية، ليسلمه الحكم. الدعاية المضللة الموالية لحكم الملالي في إيران تعتبر شابور باختيار آخر رؤساء الوزارة في عهد الشاه، فيما هو في الحقيقة أول رئيس وزراء في مرحلة ما بعد الشاه.

في ذلك الوقت، لم يكن الكثيرون في إيران قد سمعوا عن نظرية ولاية الفقيه التي لم يروج لها الخميني سوى بين قلة من رجال الدين الموالين. كان الخميني قد ألف هذه التخريجة الفقهية داعياً رجال الدين لتولي السلطة إذ جعل الخميني ولاية الفقيه ركناً من أركان الدين، ووضعها في مرتبة أعلى من الثابت من أركان الإسلام.

بعد سقوط الشاه كشف الخميني والملالي عن الوجه الحقيقي لثورتهم، وتم فرض ولاية الفقيه عقيدة ونظرية رسمية لحكم البلاد. أدرك الوطنيون والشيوعيون والليبراليون الخدعة التي راحوا ضحية لها، لكن الوقت كان قد فات. تعرض كل هؤلاء للتهميش والملاحقة والاغتيال، فخلت الساحة لحكم الولي الفقيه.

كان التنظيم الحديدي المحكم لرجال الدين هو العامل الذي حسم مصير ما سمي الثورة الإيرانية في النهاية، وهو ما حدث نفسه بعد ذلك في ثورات الربيع العربي المزعوم. ارتفعت المطالب الوطنية الديمقراطية في مصر وتونس وغيرها، ليكتشف الناس بعد ذلك أن الإخوان والمتطرفين هم القوة التي تتلاعب بتفاصيل المشهد وخباياه.

ساعد درس خدعة الثورة الإيرانية العرب على تجنب المصير الإيراني، فتمت هزيمة الإخوان في مصر، واحتواؤهم في تونس، فيما تسبب هؤلاء في الكثير من الخراب في سوريا واليمن، ولإيران في البلدين أيادٍ وأذرع.