عودة التنافس الاستراتيجي بين القوى الكبرى

ت + ت - الحجم الطبيعي

وفقاً لوثيقة استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الأخيرة، لم تعد الولايات المتحدة تعتبر الإرهاب التهديد الأول لأمنها. بالمقابل رصدت الاستراتيجية العودة لسياسات التنافس الاستراتيجي بين القوى الكبرى، معتبرة أن ذلك يمثل التهديد الأهم للأمن والمصالح الأمريكية، وبناء على هذا اعتبرت الوثيقة الأمريكية المهمة أن روسيا والصين يمثلان التحديان الأكثر جدية لأمن الولايات المتحدة.

بالانتقال من الولايات المتحدة لألمانيا، نجد التقرير المقدم لمؤتمر ميونيخ للأمن، الذي انعقد الأسبوع الماضي، يعيد تكرار نفس المفهوم، مركزاً على الضغوط التي يتعرض لها النظام الدولي الليبرالي، بسبب صعود النفوذ السياسي لقوى كبرى تحكمها نظم تسلطية، ومسبباً عودة سياسات التنافس الاستراتيجي بين القوى الكبرى، ومتوقعاً المزيد من التوتر في هذه العلاقات.

المقصود بالعودة لسياسات التنافس الاستراتيجي هو تزايد اهتمام القوى الكبرى بميزان القوة بينها، وتركيزها بشكل خاص على ميزان القوة العسكرية؛ وعلى تضييق فجوات القدرة العسكرية في ما بينها؛ والنظر لكل القضايا والتفاعلات من منظور عسكري، فتصبح علاقات التجارة والاستثمار والإعلام والتكنولوجيا والثقافة قضايا أمنية وجيواستراتيجية.

بعد انتهاء الحرب الباردة ساد في الدول الغربية اعتقاد مؤداه أنه لم يعد هناك من معنى للمنافسة الاستراتيجية بين الدول؛ فهذه المنافسة لا تؤدي سوى إلى إهدار الموارد في صراعات مسلحة وسباقات تسلح لا يستفيد منها أحد. لقد وفر الصراع الأيديولوجي بين الليبرالية والشيوعية الأساس العقيدي للمنافسة الاستراتيجية، ولكن بعد انتهاء الانقسام الأيديولوجي لم يعد هناك معنى للاستمرار في هذا التنافس.

لقد انهزمت الشيوعية وتفكك المعسكر الذي تبناها، بل إن الاتحاد السوفييتي نفسه قد انشطر إلى خمس عشر دولة، وأصبحت الصين بلداً رأسمالياً بامتياز، رغم أن الحزب الشيوعي الصيني ما زال يحكم الصين منفرداً، فقد تحوّل هذا الحزب إلى جهاز سلطة وأداة حكم، ولم يعد جهازاً ومنظمة أيديولوجية؛ وبدلاً من العقيدة الماركسية الجامدة تبنى الشيوعيون الصينيون منهجاً براغماتياً نفعياً، يركز على المصالح أكثر من تركيزه على العقائد والمبادئ.

لقد شجّعت هذه التحولات الكثيرين في الغرب على هجر أفكار التوازن الاستراتيجي وميزان القوة، والتركيز بالمقابل على المصالح والمنافع المشتركة، وبمقتضى هذا المنهج الليبرالي في النظر للأمور أصبحت «الأولوية للاقتصاد» عقيدة حاكمة لسياسات الدول الغربية، التي نظرت بازدراء لأفكار ميزان القوة والتوازن الاستراتيجي والافتخار القومي باعتبارها أشباحاً تنتمي للماضي، ولم يعد لها مكان في العالم المعاصر.

أثر العولمة

المصالح المشتركة بدلاً من الصراع، والمنافسة الاقتصادية والتكنولوجية التي تعود بالمنفعة على الجميع، بدلاً من التنافس العسكري والجيواستراتيجي ذي الحصيلة الصفرية، التي يكون فيها ما يكسبه أحد الأطراف خسارة للأطراف الأخرى. هذه هي المفاهيم التي سادت النظام الدولي بعد انتهاء الحرب الباردة.

لم يكن المخططون الاستراتيجيون في بلاد الغرب غافلين عن النزعات القومية والرؤى الصراعية للعالم المنتشرة في الصين وروسيا وبلاد أخرى، لكن العدسات الليبرالية «الاقتصادوية» التي نظر هؤلاء من خلالها جعلتهم ميّالين للحد من خطورة هذه النزعات، وبالمقابل فإنهم بالغوا في الأثر الذي يمكن للمنافع الاقتصادية المشتركة أن تحدثه، وقدرتها على تذويب التعصب القومي وسياسات القوة.

سياسات الليبرالية «الاقتصادوية» كانت في جانب كبير منها مراهنة على المستقبل، وعلى الأثر التحويلي للعولمة والمنافع الاقتصادية المشتركة، وهي المراهنة التي يبدو أن التحوّلات الاستراتيجية الأخيرة تمثل إعلاناً بإخفاقها.

لقد ضحّت روسيا بالمنافع الاقتصادية للعولمة من أجل الفوز بما تعتبره حقاً لها في شبه جزيرة القرم وفي شرق أوكرانيا، ومن أجل تحصين نفوذها فيما تعتبره مجالاً حيوياً لها في البلاد التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي السابق، ومن أجل منع حلف الناتو من توسيع عضويته في الجوار القريب. إنه تفكير قومي وجيواستراتيجي بامتياز، ليس له عوائد اقتصادية واضحة تبرره، على العكس فقد تحمل الاقتصاد الروسي الكثير من الأعباء بسبب هذه السياسة.

الصين وأمريكا

الصين، على الجانب الآخر، ليست في عجلة من أمرها، فالمخططون الاستراتيجيون في الصين يؤمنون بأن الولايات المتحدة هي قوة عظمى آفلة، وأن بلدهم هو المرشح الأول بلا منافس للحلول محلها، وأن حدوث ذلك لا يحتاج منهم القيام بتصرفات عدائية فجائية، ولكن عليهم فقط مواصلة تطبيق أساليب الهندسة العكسية والتجسس التكنولوجي وانتهاك حقوق الملكية الفكرية، من أجل بناء قدراتهم الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية في هدوء، ومواصلة تضييق الفجوة مع الولايات المتحدة،وعندما يصبحون القوة رقم واحد اقتصادياً وتكنولوجياً وعسكرياً، فعندها سيتغير كل شيء تلقائياً لصالح بلدهم.

اللحظة الدولية الراهنة هي لحظة تتحرش فيها روسيا بالولايات المتحدة والغرب، وتتصرف بطريقة تنطوي على تحد صريح للنفوذ الأمريكي، فيما تعمل الصين بثبات وهدوء لقلب ميزان القوة لصالحها؛ أما الولايات المتحدة تحت رئاسة ترامب فقد تخلت عن الأوهام الليبرالية، وقررت التصدي للتحدي الروسي العاجل والملح، والتحدي الصيني طويل المدى، لتنتهي بذلك حقبة النظام الدولي الليبرالي، وليدخل النظام الدولي في مرحلة جديدة من تنافس القوى الكبرى.

Email