تردد مؤخراً على مواقع التواصل الاجتماعي أن كلمة ناطور أصلها إنجليزي وتعني التجوال ليلاً night tour، ومن هنا جاءت كلمة ناطور في اللغة العربية وتعني الحارس أو الذي يحرس ليلاً ويتجوّل لكي يحرس، ومن دون تحقق بدأ الناس يتداولون هذه المعلومة وبكثرة. دفعني هذا الأمر لكتابة هذا المقال فدعوني أبين بعض الحقائق.
قال المتنبي في إحدى أشهر قصائده «عيد بأي حال عدت يا عيد»، التي هجا فيها حاكم مصر آنذاك قبل أكثر من ألف سنة:
نامت نواطير مصر عن ثعالبها فقد بشمن وما تفنى العناقيد
فاستخدم المتنبي، الذي توفي مقتولاً سنة 354 هجرية، كلمة ناطور، ومذكور في شرح ديوانه الذي وضعه عبد الرحمن البرقوقي أنها كلمة مختلف عليها، فقيل إنها عربية، وقيل إنها من كلام أهل السواد، وقيل هي بالعربية المعجمة نواظير وبالعربية المهملة تحولت إلى نواطير وتعني تحديداً حافظ الزرع والتمر والكرْم (أي العنب).
وفي كل الأحوال لم تكن اللغة الإنجليزية قبل ألف سنة حاضرة بالشكل الذي نعرفه الآن، فهي لم تكن كذلك تماماً لا في اللفظ ولا في الكتابة أو القواعد، فمن أين جاءت تلك المعلومة عن الناطور بأنها كلمة إنجليزية؟ ولماذا تم تداولها من دون تحقق أو حتى تفكر، أي لماذا نأخذ كل ما نسمع كأنه من المسلّمات؟ هذه أسئلة جديرة بتفكرنا وإعادة النظر في دقة مصدر المعلومة على مواقع التواصل الاجتماعي.
دائماً ما ندرس الملكية الفكرية ونتعلم أنه لا يمكن لأي أحد كتابة أي شيء أو حتى الإشارة إليه إلا مع ذكر المصدر الأصلي في النص وفي المراجع، أما ما نراه في مواقع التواصل الاجتماعي من كم هائل من المعلومات لا مصدر لها ولا أصل لا بد من التعامل معه بطريقة تليق بمصداقية المصدر وقوته، ولن يتحقق ذلك على الأغلب إلا إذا انتشرت ثقافة التحقق والبحث والتحري، أي الثقافة في أحد أشكالها الأصيلة وتمييز الغثّ من السمين.
والمقلق في الأمر أيضاً هو قلة معرفتنا بلغتنا الأم ومنابع ثقافتنا من أدب وشعر أصيل وفكر، وهنا أتذكر تلك الحادثة، عندما جاءت مجموعة من المواطنين الشباب المهتمين بالترجمة إلى أحد أساتذة الجامعة المتخصصين في اللغة العربية وطلبوا أن تساعدهم في ترجمة كتاب ألف ليلة وليلة إلى اللغة العربية! فما كان منها ومن صدمتها إلا أن قالت لهم هي أصلاً مكتوبة باللغة العربية وموجودة نسخها في كثير من مكتبات الوطن العربي، فلا حاجة لترجمتها، فكانت صدمة هؤلاء الشباب كبيرة ومحبطة. إن دلّ هذا على شيء فإنه يدل على عدم ارتباطنا بلغتنا وأدبنا وفكرنا وموروثنا الثقافي.
هي الفجوة التي طالما تحدثت عنها ويحاول بعضنا ردمها باستخدام اللغة الإنجليزية وفكر غربي متجاهلاً تماماً الإرث العريق الذي بين يديه، فذهبنا نبحث عنه عند الآخرين وفي المكتبة الإنجليزية، وهناك دلالة أخرى وأخطر من الأولى، وهي أن الشباب العربي يحتاج إلى نظام تعليم يراعي عروبته ويربطه بماضيه والإرث العريق الذي يحمله، فكفاهم الضياع والتشتت الحضاري، وكفانا نحن التعرض لهذا الكم الهائل من المعلومات غير الدقيقة، التي نتداولها من غير تمحيص في مصادرها.