المصادفة وحدها هي التي جمعت بين مجموعة تطورات ظاهرة أو خفية يبدو أن لا رابط بينها، ولكنها تقدم عند ربطها معاً بخيط واحد صورة متكاملة وتفسيرات مبدئية لأزمات تصيب العالم بحالات ارتباك واضحة مثل مظاهرات «أصحاب السترات الصفراء» وأوضاع المهاجرين واللاجئين في الغرب ومآسي الهجرات العشوائية التي توصف إعلامياً وسياسياً بـ«الهجرة غير الشرعية».

أغلب الظن أنه لا توجد أبعاد خفية أو غامضة لظاهرة ومظاهرات «أصحاب السترات الصفراء» التي ضربت فرنسا كزلزال عنيف بتوابع قوية في دول أوروبية أخرى.

فالأسباب الاقتصادية والمجتمعية في تفسير ما جرى قتلت بحثاً وتحليلاً خلال الأسابيع الماضية في محاولة لوضع تصور شامل لخلفية الأحداث وبواعثها، ولم يستبعد المحللون والمراقبون من داخل فرنسا وخارجها مسألة التهميش الاجتماعي والفروق العنصرية سواء للاجئين أو المهاجرين أو حتى للفرنسيين من أصول أجنبية باعتبارها من صلب الأسباب التي قادت إلى دوامة الاضطرابات الأخيرة دون استبعاد عوامل أخرى سواء أكانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية.

وبالفعل باتت مسألة المهاجرين واللاجئين من المسائل الدولية الحيوية وربما الخطيرة التي تضغط بشدة ومنذ سنوات ليست بالقليلة على أعصاب الدول الغربية والأوروبية منها على وجه الخصوص، والتي تمارس بدورها هي الأخرى ضغوطاً عنيفة ومكثفة وبوسائل متنوعة على الدول النامية المصدرة للمهاجرين واللاجئين خاصة الدول الأفريقية ودول شمال أفريقيا باعتبارها معبراً جغرافياً مهماً لها.

وليس خافياً أن معظم الدول الغربية اختارت البعد الأمني والقومي للتصدي لتلك الظاهرة والتداعيات المرتبطة بها، الأمر الذي أدى إلى تزايد مخاطر تلك الظاهرة ودخولها في أطوار أخرى بدلاً من العمل على إيجاد حلول عملية لها لاقتلاعها من جذورها بعيداً عن الاعتماد على الحلول الأمنية والعسكرية وحدها.

وقد يكون من المهم في هذا الشأن استعراض بعض الأسانيد الدولية في هذا الشأن ومن بينها تلك الدراسة الجديدة الصادرة عن كل من التقرير العالمي لرصد التعليم التابع لمنظمة اليونسكو ومؤسسة التعليم فوق الجميع والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بعنوان: «يا لها من خسارة.. اضمنوا الاعتراف بمؤهلات المهاجرين واللاجئين العلمية وتعليمهم المسبق» والتي نشرت في اليوم العالمي للمهاجرين، وقد أظهرت أن أكثر من ثلث المهاجرين من ذوي التعليم العالي مؤهلون أكثر من اللازم بالنسبة للوظائف التي يشغلونها.

ونظراً لأهمية تلك الدراسة كمستند دولي يساعد على فهم بعض الأمور التي قد تبدو خفية، فمن المهم استعراض بعض ما جاء فيها حيث ذهبت إلى أن الأنظمة المستخدَمة في الاعتراف بمؤهلاتهم العلمية وتعليمهم المسبق غير مناسبة على الرغم من الحاجة الملحة لها، فثلث المهاجرين في أوروبا يرون في عدم الاعتراف بمؤهلاتهم العلمية أكبر تحدٍ يواجهونه،.

متقدماً بذلك على تحديات مهارات اللغة أو التمييز أو القيود على الإقامة، وفي تعليقها على ذلك، قالت مستشارة التعليم بالمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، إيتا شيهي «إن قصص الأطباء أو المعلمين المهاجرين ممن يعملون كسائقي سيارات أجرة تسلط الضوء على الإمكانات الضائعة في العالم».

وهناك إشارة خاصة للولايات المتحدة حيث ينتهي المطاف بواحد من كل أربعة مهاجرين تقريباً ممن يحملون شهادات أعلى من الثانوية العامة بالعمل في وظائف تتطلب مهارات قليلة أو دون عمل، وينتج عن ذلك خسارة سنوية تقدر بـ 39 مليار دولار أمريكي من الأجور غير المحصلة و10.2 مليارات دولار أمريكي من الضرائب المفقودة.

وبدوره علق مدير التقرير العالمي لرصد التعليم، مانوس أنطونينيس بقوله «من غير المرجح أن يكون بحوزة اللاجئين إثباتات على مؤهلاتهم العلمية، فعند الهروب من مناطق النزاع، من غير المحتمل أن يكون حزم شهاداتك العلمية على سلم أولوياتك، ينبغي للأنظمة أن تكون أكثر سهولة وأن تقلل من العراقيل التي يطلب من اللاجئين التغلب عليها».

وفي تعليق لها في هذا الإطار، قالت المديرة التنفيذية لبرنامج «علم طفلاً» التابع لمؤسسة التعليم فوق الجميع، الدكتورة ماري جوي بيجوزي: «إن اتفاقية عالمية للاعتراف بمؤهلات التعليم العالي أعدتها منظمة اليونسكو مطروحة للتبني العام المقبل، وينبغي على آليات الاعتراف المنشودة أو المستهدفة أن تتضمن شروطاً خاصة بالمهاجرين واللاجئين .

وتكون أكثر بساطة ومرونة وذات تكلفة مخفضة وتؤسس أطراً واضحة وشفافة ومتسقة للاعتراف بالتعليم المسبق وترفع الوعي بإجراءات الاعتراف المعمول بها وتدمَج مع الخدمات للمساعدة في الانتقال للعمل وتقيم معرفة ومهارات الأطفال لتعيينهم في المستويات المناسبة خلال أسابيع من وصولهم كحد أقصى وتستخدم التكنولوجيا حيثما كان ذلك مناسباً».

ولا شك في أن مثل هذه الدراسات والآراء تساهم بشكل كبير في تحديد جذور الداء ووصف الدواء لمشاكل تثير الاضطرابات بين وقت وآخر لعدم علاجها بشكل شامل، وتلك مجرد رؤية من بعض الهيئات الدولية لا تقل أهمية عن ميثاق الأمم المتحدة الجديد للهجرة الذي تم إقراره مؤخراً وله أهمية كبرى في التعامل مع تلك القضية.

كاتب ومحلل سياسي