هناك مقاربات متناقضة داخل المؤسسة السياسية الأمريكية حول الإرهاب والموقف منه خلقت حالة من الإرباك تعيق صياغة موقف محدد وواضح من وجود القوات العسكرية في سوريا، حيث اتسمت القرارات التي اتخذت بشأن ذلك بالتردد بين سحبها أو إبقائها أو إبقاء بضعة مئات منها في إعلان صارخ يعكس الخلافات والتجاذبات بين البيت الأبيض والبنتاغون، وربما سنشهد ما يشبه ذلك فيما يتعلق بمستقبل هذه القوات في العراق بعد أن انتقد الرئيس ترامب بشدة وامتعاض سياسات بلاده الخارجية في العراق وسوريا في الخطاب الذي ألقاه في مؤتمر العمل السياسي المحافظ، الذي عقد في ميريلاند في الثالث من مارس الجاري.

هذا الموضوع رغم أنه يبدو أمريكياً إلا أنه في الحقيقة ليس كذلك لأن الوجود العسكري الأمريكي في العراق وسوريا هو بسبب الحرب على التنظيمات الإرهابية، التي نشطت في هذين البلدين، إذ سيترتب على الانسحاب المتسرع للقوات الأمريكية من سوريا أو تقليص عددها بشكل كبير تداعيات على الولايات المتحدة وعلى شركائها الذين قاتلوا معها وخصوصاً قوات سوريا الديمقراطية الفصيل الأكثر قرباً لها، فهو من هذا المنظور لا يهم الولايات المتحدة بالقدر الذي يهم دولاً أخرى في منطقة الشرق الأوسط أنتجت تنظيم داعش، وأنتجت التنظيمات الإرهابية الأخرى التي سبقته واكتوت بنيرانها، لذا يصبح من الضروري إضاءة بعض محاور التصدي للإرهاب وتقويم مدى فعالية ما أنجز في أطرها.

تساؤلات عديدة تطرح نفسها بقوة حول مستقبل المنطقة القلقة سياسياً ومجتمعياً وسط حالة اللا استقرار التي تشهدها بعض دولها والمآلات اللا يقينية التي تنتظرها وفي ضوء الفشل المتكرر في قراءة أحداثها ومن ثم إعادة إنتاج السياسات الخاطئة التي عملت على تفاقمها على المستويات الدولية والإقليمية والمحلية، لأن استراتيجيات بلدانها متأثرة إلى حد بعيد بالموقف الدولي من الإرهاب الذي تقود الولايات المتحدة التحالف الذي يتصدى له.

لا يجد المتابع للحركات الإرهابية في منطقة الشرق الأوسط وخاصة في العراق صعوبة في استنتاج أن هذه الحركات رغم هزائمها عسكرياً تعود لتتجدد في كل مرة بنسخة أخرى تحت مسمى جديد لا يقل قوة عن سابقه إن لم يكن أشد بأساً وصرامة، فقد برز أول هذه التنظيمات عام 1999 في الأردن تحت مسمى «جماعة التوحيد والجهاد» بزعامة أبو مصعب الزرقاوي وبدأ بممارسة نشاطاته في العراق بعد التغيير في 2003 وأعيدت تسميته مراراً ليصبح في نهاية المطاف «الدولة الإسلامية في العراق والشام» بزعامة أبو بكر البغدادي التي عرفت اختصاراً باسم (داعش) عام 2014 وليكون النسخة الأكثر سعة وهمجية من سابقاتها، وفق هذه السياقات ألا يصبح التساؤل حول طبيعة النسخة القادمة من هذه التنظيمات منطقياً وفي محله؟

منذ البدايات الأولى لسيطرة تنظيم داعش على أجزاء هامة من العراق انخرط في صفوفه عدد من العسكريين في شتى الصنوف الذين وظفوا خبراتهم وقدراتهم لصالح هذا التنظيم وعملوا على بناء جيش خاص به من أبناء المناطق التي احتلها وليس من المستبعد أنه ترك عند انسحابه جهاز مخابراته وخلاياه النائمة.

من الصعب الاقتناع بأن تنظيم داعش قد انتهى لمجرد هزائمه العسكرية وخسارته للأرض، وذلك لأن مبررات ظهوره لم تنتهِ أو تزُل، فعلى الرغم من انقضاء أكثر من سنة على طرده من المدن التي كانت تحت سيطرته إلا أنه لا يزال يقوم بعمليات هنا أو هناك. الحملة على هذا التنظيم قد اقتصرت على الجانب العسكري دون إعارة كبير أهمية لعوامل أخرى تكمن وراء توفير المناخ الملائم لنشأته، فهناك ما يساعد على عودته، فوجود ما يقرب من خمسة ملايين عراقي يعيشون في مخيمات النزوح أو في مناطق سكناهم التي عادوا إليها، حيث لا يتوافر فيها أبسط متطلبات الحياة لافتقارها إلى البنى التحتية من كهرباء ومياه ووقود وشبكات النقل والاتصالات، وتفشي البطالة وضعف أو انعدام الفرص أمام الشباب المحبط وهي عوامل تساعد التنظيمات الإرهابية على كسب الكثير من هؤلاء.

لقد وفرت الولايات المتحدة، على المستوى الدولي، الجهد الأكبر في التصدي للإرهاب إلا أنها تنوي التخلي عن الاستمرار بالمهمة بحجة أنها قد أنجزت، وهو مما لا يتفق معها الكثيرون.

 

كاتب عراقي