تمر أوروبا بفترة حرجة لم تشهد مثلها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. فقد صوت الناخبون البريطانيون للخروج من الاتحاد الأوروبي، فيما التيارات الشعبوية اليمينية واليسارية يتزايد نفوذها في كل دول القارة بسرعة، مواصلة التشكيك في الاتحاد الأوربي، وفي المؤسسات والنخب الأوروبية الحاكمة.

لقد اعتمد الأوروبيون طويلاً على الولايات المتحدة باعتبارها بوليصة التأمين المضمونة ضد التهديدات الأمنية، ووضعوا ثقتهم في حلف الناتو ليكون الإطار المنظم لعلاقتهم الأمنية بالحليف الأمريكي.

لكن الولايات المتحدة تفقد اهتمامها بأوروبا، وتركز اهتمامها على آسيا، لمواجهة التحديات التي يثيرها صعود الصين هناك. لم يعد الأمريكيون راغبين في تجديد التزامهم بأمن أوروبا بغير شروط كما كان الحال سابقاً، وراح المسؤولون الأمريكيون يقللون من شأن حلف الناتو، مطالبين الأوروبيين بتحمل نصيباً أكبر في الدفاع عن أوروبا.

في مواجهة هذه الضغوط يقدم الرئيس الفرنسي أيمانويل ماكرون نفسه باعتباره الزعيم المنقذ للمشروع الأوروبي. لا غرابة في ذلك، ففرنسا هي دولة مؤسسة رئيسية للاتحاد الأوروبي، وطوال الوقت لعبت مع ألمانيا دور القيادة الثنائية لمشروع التكامل الأوروبي. عرض ماكرون رؤيته لإنقاذ أوروبا في مقال نشره قبل أيام في موقع «بروجيكتسنديكيت» شديد الاحترام.

قال ماكرون إن القوى الكبرى في العالم تتجه لاتباع استراتيجيات عدائية، وأن أي دولة أوروبية منفردة لا تستطيع مقاومة هذه الاستراتيجيات. قال ماكرون إن شركات التقنية الكبرى تزداد ضخامة وقوة، وأن أي دولة أوروبية منفردة لا يمكنها الحفاظ على سيادتها في مواجهة هذه الاحتكارات التكنولوجية الكبرى.

يؤكد الرئيس الفرنسي في المقال على مزايا وفوائد الاتحاد الأوروبي التي ينكرها المشككون من اليمين واليسار. لكن ماكرون يذهب أبعد من ذلك ليروج لمجموعة من الأفكار والبرامج الجديدة. يرى ماكرون أن الركود هو أكثر ما يهدد أوروبا، وأن تبني موقف دفاعي في مواجهة هجمات المشككين هو أخطر ما يهدد الاتحاد الأوروبي، وأنه لابد من مواصلة التقدم باستمرار.

فبينما يتعرض الاتحاد الأوروبي للهجوم من جبهات عدة، فإن الرئيس الفرنسي لا يكتفي بالدفاع عن مؤسسات الاتحاد وسياساته، بل يقترح استراتيجية توسعية هجومية، ولسان حاله يقول إن الهجوم خير وسيلة للدفاع.

وضع ماكرون مقترحاته تحت شعارات ثلاثة: الحرية، والحماية، والتقدم. ففيما يخص الحرية، يرى أن حرية الأوروبيين السياسية، وقدرتهم على اختيار قادتهم بحرية تتعرض للتهديد بسبب تدخلات قوى خارجية تحاول التأثير في نتائج الانتخابات الأوروبية، في إشارة ضمنية لروسيا.

في مواجهة ذلك يقترح ماكرون إنشاء «الوكالة الأوروبية لحماية الديمقراطيات»، لتقوم بتزويد الديمقراطيات الأوروبية بالخبراء في مجالات الحماية ضد التلاعب والهجمات السيبرانية. كما اقترح إصدار تشريع أوروبي موحد يمنع تلقي الأحزاب السياسية تمويلاً من قوى أجنبية، ووضع قواعد تمنع التحريض على العنف والكراهية على شبكة الإنترنت.

مشروعات الرئيس الفرنسي في مجال الحماية تتركز على مجال الدفاع عن الحدود الأوروبية. يقترح ماكرون إعادة النظر في القواعد المنظمة لمنطقة شنغن، بحيث تلتزم الدول أعضاء المنطقة بنفس القواعد فيما يخص مراقبة الحدود والتعامل مع اللاجئين.

كما يقترح إنشاء قوة حرس حدود أوروبية موحدة، ومكتب أوروبي لشؤون اللجوء، على أن تعمل هاتان الهيئتان تحت إشراف «المجلس الأوروبي للأمن الداخلي»، وهو هيئة جديدة يقترح تأسيسها خصيصاً لهذا الغرض.

أفكار ماكرون في مجال الحماية لا تتوقف عند هذا الحد، فهو يقترح أيضاً التوصل إلى معاهدة أوروبية للأمن والدفاع، تعمل إلى جانب حلف الناتو وليست بديلاً عنه، وزيادة النفقات الدفاعية للدول الأوروبية، وإنشاء «مجلس الأمن الأوروبي»، والذي ستكون بريطانيا عضواً فيه. ومن أهم ما اقترحه ماكرون في هذا المجال إعطاء الأفضلية للصناعات والمنتجات الأوروبية في المجالات الاستراتيجية، كما هو متبع في الصين والولايات المتحدة.

أما فيما يخص قضية التقدم، يقترح ماكرون إقرار حد أدنى موحد للأجر يسري في كل البلاد أعضاء الاتحاد الأوروبي، وإنشاء «بنك المناخ الأوروبي»، و«الفرقة الأوروبية لسلامة الغذاء»، و«مجلس الابتكار الأوروبي»، وتزويده بتمويل مكافئ لما يتم توفيره في الولايات المتحدة لتمويل الابتكار التكنولوجي.

تتسم مقترحات ماكرون بالطموح الشديد، وتضم قائمة طويلة من المؤسسات الأوروبية الجديدة المطلوب تأسيسها. يتجنب الرئيس الفرنسي الدفاع ضد هجمات الشعبويين المتشككين، ويتجنب الوقوع في فخ تبرير الأوضاع القائمة في أوروبا، لكنه بالمقابل ينطلق للأمام، ويقترح معالجة مشكلات أوروبا عبر إنشاء المزيد من المؤسسات الأوروبية.

المؤكد أن أفكار الرئيس ماكرون ستكون موضعاً لجدل كبير خلال انتخابات البرلمان الأوروبي التي ستجري في مايو القادم، لكن من غير الواضح ما إذا كانت هذه الأفكار ستزود أنصار أوروبا بقوة هجوم ضاربة ضد خصومهم، أم أن الناخبين سينظرون إلى هذه الأفكار باعتبارها تعميقاً لمشكلة البيروقراطية الأوروبية المزمنة. فهل تمثل أفكار الرئيس ماكرون خطة ناجحة للهجوم، أم هروباً يائساً للأمام، فهذا ما سنعرفه خلال الأسابيع القادمة.