تحل في هذا الشهر الذكرى السبعون لتأسيس حلف الناتو، وكذلك الذكرى العشرون لتوسيع عضوية الحلف ليضم دولاً في شرق أوروبا كانت قبل عقد واحد من ذلك التاريخ أعضاء في حلف وارسو المعادي. لكن عيد ميلاد الناتو السبعين يحمل معه تحديات وجودية قد تسفر عن تغيير كامل في طبيعته. وتتركز هذه التحديات في علاقة الحلف بثلاث دول هي أمريكا وروسيا وتركيا.
بعد الحرب العالمية الثانية كانت دول أوروبا الغربية تبحث عن تحالفات عسكرية توفر لها الحماية والأمن. تشكلت عدة أشكال من التحالفات بين دول في أوروبا الغربية، لكن التطور الأهم حدث في الرابع من أبريل عام 1949 عندما دخلت الولايات المتحدة على خط الأحلاف العسكرية الأوروبية، فتم توقيع معاهدة شمال الأطلنطي، التي وقع عليها اثنتا عشرة دولة هي الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا وفرنسا والبرتغال وإيطاليا والنرويج وأيسلندا والدنمارك وهولندا وبلجيكا ولوكسمبورج، وهي الأعضاء المؤسسون لحلف الناتو.
توسعت عضوية الحلف في السنوات التالية، وفي وقت انهيار سور برلين وانتهاء الحرب الباردة كان عدد الدول الأعضاء في الحلف وصل إلى خمس عشرة دولة، ليضاف إليها منذ أبريل 1999 ثلاث عشرة دولة أخرى، كانت جميعاً جزءاً بطريقة أو بأخرى من المعسكر الشيوعي السوفيتي السابق، ليصل عدد الدول أعضاء الناتو إلى 28 دولة.
لقد عاش الناتو فترة أطول من أي تحالف عسكري معروف في التاريخ، لكنه الآن يواجه تحديات وأسئلة صعبة تدور حول علاقته بدول ثلاث هي أمريكا أهم أعضاء الناتو، وروسيا العدو التاريخي للحلف، وتركيا الدولة المسلمة الوحيدة العضو في الحلف. أخطر التحديات التي تواجه الناتو هو التحدي المتعلق بمستقبل التحالف العسكري بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية، ومستقبل الدور الأمريكي في الدفاع عن أوروبا، وما إذا كانت الولايات المتحدة تنوي مواصلة لعب الدور القيادي والمركزي في حلف الناتو، أم أن على الدول الأوروبية البحث عن ترتيبات عسكرية ودفاعية جديدة مستقلة عن الولايات المتحدة؟
لقد عبرت الولايات المتحدة بأكثر من طريقة عن تحفظها على مواصلة القيام بالدور المعتاد في الدفاع عن أوروبا، وعن رغبتها في تحمل الدول الأوروبية مسؤولية أكبر في الدفاع عن نفسها، ووصل التحفظ الأمريكي لأقصى نقطة له في ظل إدارة الرئيس ترامب، الذي عبر عن المطالب الأمريكية بأكثر الطرق فجاجة واستهانة بالحلفاء الأوروبيين.
وفيما يدعو البعض في أوروبا للتقدم باتجاه بناء حلف دفاعي أوروبي لا تكون الولايات المتحدة جزءاً منه، فإن آخرين يرفضون هذا الاختيار بشدة، لما يمكن أن يترتب عليه من تجديد الانقسامات والصراعات في القارة العجوز، وهي الصراعات التي جاءت الولايات المتحدة لأوروبا من أجل معالجة آثارها، مرة في الحرب العالمية الأولى، ومرة أخرى في الحرب العالمية الثانية، ثم بعد ذلك عندما تشكل حلف الأطلنطي.
لقد كانت الولايات المتحدة بوليصة التأمين الرئيسية التي اعتمد عليها الأوروبيون طوال أغلب الفترات خلال المائة عام الأخيرة، وليس من السهل التخلي عن هذه البوليصة التي أثبتت فعاليتها من أجل قفزة في المجهول.
التحدي الثاني الذي يواجه حلف الأطلنطي هو تحدي العلاقة مع تركيا، وما إذا كانت هذه الدولة ستبقى عضواً في الحلف، أم أن مصالحها الأمنية تفرض عليها مفارقة الناتو، بعد أن استنفذت عضويتها فيه أغراضها. انضمت تركيا مع اليونان دفعة واحدة إلى الناتو عام 1952. كانت لتركيا والتحالف الغربي مصلحة مشتركة في مواجهة التهديد السوفيتي، لكن بعد سقوط الاتحاد السوفيتي تراجعت قيمة الشراكة بين تركيا والتحالف الغربي في نظر الطرفين. حدث هذا في الوقت الذي كانت فيه أسباب عدم الثقة بين تركيا والغرب تتراكم بسرعة.
فقد أصبحت الإسلاموفوبيا مكوناً أساسياً من مكونات المشهد السياسي والإيديولوجي في الغرب، حتى أصبح من المؤكد الآن أن حلم تركيا بالانضمام للاتحاد الأوروبي قد أصبح سراباً. حدث هذا في الوقت الذي تواجه فيه تركيا أسئلة أمنية واستراتيجية صعبة مع الأكراد وفي سوريا، وهي الأسئلة التي لم تساعدها عضويتها في حلف الأطلنطي على مواجهتها. النزاع بين تركيا والناتو بشأن نية أنقرة شراء صواريخ إس 400 الروسية هو المرحلة الأحدث للتوتر بين تركيا والغرب، وسوف يتوقف مستقبل العلاقة بين تركيا والناتو على الطريقة التي يجري بها إدارة وحل هذا النزاع.
التحدي المهم الثالث الذي يواجه الأطلنطي في هذه المرحلة هو تحد مزدوج، يشمل في جانب منه مستقبل العلاقة مع روسيا، وفي جانب آخر مستقبل عملية توسيع حلف الناتو.
لقد أدى توسع الناتو إلى إثارة غضب روسيا بسبب شعورها بالتهديد والحصار، وهناك مخاوف من أن المزيد من توسع الناتو قد يتسبب في تصعيد الصراع مع روسيا. ينطبق هذا بالذات على مسألة ضم جورجيا وأوكرانيا للحلف، خاصة وأن البلدين متورطان في نزاع حدودي مسلح مع روسيا.
وبهذا الخصوص ينقسم الأوروبيون إلى فريق يرى ضرورة مواصلة توسيع الحلف، وعدم إعطاء روسيا الحق في الاعتراض على قرارات الحلف فيما يخص توسيع عضويته، فيما يرى آخرون ضرورة استرضاء روسيا بدلاً من إثارة غضبها، خاصة في ظل اتجاه أمريكا للتخفف من الأعباء الأوروبية.
* كاتب ومحلل سياسي