لم يكن مارس الماضي تقليدياً في بعض من تفاصيله السياسية المرتبطة بتطورات الصراع العربي ــ الإسرائيلي، بل يمكن القول إنه كان بالفعل استثنائياً في عشريته الأولى ثم الثانية وأخيراً الثالثة، ففي العشرية الأولى من أيامه جاء إحياء الدولة المصرية لذكرى مرور نصف قرن على استشهاد الفريق عبد المنعم رياض رئيس أركان الجيش المصري وأحد أشهر العسكريين المصريين والعرب عبر كل التاريخ والملقب بالجنرال الذهبي، وهو الذي ارتقى شهيداً في بدايات حرب الاستنزاف خلال تفقده القوات على جبهة القتال، مقدماً نموذجاً رائعاً لاستشهاد القادة في ميادين المعارك لدرجة أن مصر اعتبرت ذكرى وفاته عيداً للشهداء في كل عام.

وفي عشرية مارس الثانية كان التصرف الصادم لإدارة الرئيس الأمريكي ترامب بإسقاط صفة الاحتلال عن الضفة الغربية الفلسطينية وهضبة الجولان السورية «المحتلتين» واعتبارهما أرضاً خاضعة للإشراف الإسرائيلي، لتكتمل بذلك منظومة التطرف الأمريكي ضد المصالح الفلسطينية على وجه الخصوص بداية من مسألة التمثيل الدبلوماسي واليونسكو والاونروا وصولاً إلى نقل السفارة الأمريكية إلى القدس واعتبارها عاصمة أبدية لإسرائيل.

أما العشرية الثالثة من أيام شهر مارس الماضي فيتم خلالها الاحتفال بمرور أربعين عاما على توقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية التي كانت الأولى من نوعها بين إسرائيل ودولة عربية هي الأكبر بين شقيقاتها العربيات، ومن أهم تبعاتها الاعتراف المتبادل ووقف حالة الحرب التي كانت قائمة منذ عام 1948 وتطبيع العلاقات وسحب إسرائيل الكامل لقواتها المسلحة والمدنيين من شبه جزيرة سيناء، ووافقت مصر على ترك المنطقة منزوعة السلاح وعلى حرية مرور السفن الإسرائيلية عبر قناة السويس والاعتراف بمضيق تيران وخليج العقبة ممرات مائية دولية.

ودخل تطبيع العلاقات بين إسرائيل ومصر حيز النفاذ في يناير 1980 وتم تبادل السفراء في فبراير وألغيت قوانين المقاطعة من قبل البرلمان المصري في الشهر نفسه وبدأت بعض أوجه التجارة تتطور بأشكال مختلفة وفي مارس 1980 تم تدشين رحلات جوية منتظمة كما بدأت مصر بإمداد إسرائيل بالنفط الخام ثم الغاز الطبيعي، وفي 3 أغسطس 1981تم التوقيع على بروتوكول معاهدة السلام الذي أنشأ القوة المتعددة الجنسيات والمراقبين لضمان الامتثال للمعاهدة.

وتضمنت المعاهدة نصاً يطلق عليه آلية الأنشطة المتفق عليها والتي تسمح لمصر وإسرائيل بتغيير ترتيبات القوات المصرية في سيناء، من دون الاضطرار إلى إعادة النظر رسمياً في المعاهدة نفسها، وقد سمحت إسرائيل بمقتضى ذلك لمصر بنشر قوات في وسط وشرق سيناء بسبب المخاوف الأمنية المتبادلة،مثل وجود جماعات مسلحة جهادية في هذه المناطق، وفي يناير 2011 وافقت إسرائيل على السماح لمصر بنقل عدة مئات من الجنود إلى شبه جزيرة سيناء للمرة الأولى منذ توقيع المعاهدة فنقلت مصر كتيبتين (حوالي 800 جندي) إلى منطقة شرم الشيخ في أقصى جنوب سيناء.

وفي أغسطس 2012 وافقت إسرائيل على تمكين مصر من نشر قوات إضافية،بما في ذلك مروحيات هجومية في شمال سيناء لمحاربة الإرهابيين، ونقلت مصر أسلحة ثقيلة إضافية إلى المنطقة المجردة من السلاح، في خطوة عكست كثيراً من المرونة في علاقات البلدين خاصة فيما يتعلق بالنواحي الأمنية، والأهم من ذلك أنها كرست فكرة الحفاظ على حالة السلام بين البلدين في ظل المعاهدة المبرمة بينهما في مارس 1979، ونجاحها في تخطي الصعاب التي اعترضت طريقها خاصة بعد يناير2011 وفترة حكم الإخوان، إلا أن استقرار الأوضاع الأمنية والسياسية، وحرص مصر على تكريس حالة السلام والعمل على نشره في ربوع المنطقة، ساعد على صمود المعاهدة بعد أربعين عاماً من توقيعها بأقلام السادات وبيغن وكارتر.

إلا أن الأمانة السياسية قبل رصد الواقع الميداني، تؤكد أن إسرائيل استغلت المعاهدة في توسيع نفوذها الاستعماري وممارساتها العدوانية تجاه الدول العربية في اتجاه معاكس تماماً لأهداف معاهدة السلام، ما يؤكد مجدداً أن النوايا الإسرائيلية لم تكن تدور حول إقامة سلام شامل وعادل في المنطقة.

ولكن وكما اتضح على مدار أربعين عاماً، فإنها استغلت حالة السلم مع مصر في توسيع نفوذها، برغم أن الدولة المصرية والعرب عموماً قدموا مبادرات عديدة وفتحوا الأبواب واسعة أمامها، لكي تتبنى خيار السلام وإنهاء الحروب مع ضمان أمنها وحدودها، إلا أن إسرائيل أصرت على السير في الاتجاه المعاكس، ليظل السلام الحقيقي مفقوداً بالفعل في الشرق الأوسط بعد أربعين عاماً من بزوغ الآمال في سلام عادل مع إبرام المعاهدة المصرية ــ الإسرائيلية.

* كاتب ومحلل سياسي