شاع استخدام مفهوم القوة الناعمة منذ قام عالم السياسة الأمريكي جوزيف ناي بصك هذا المصطلح في مطلع التسعينيات. القوة هي القدرة على جعل الآخرين يقومون بتصرفات لم يكونوا ليقوموا بها لولا أثر القوة التي تم إخضاعهم لها.
حتى قيام جوزيف ناي بتطوير هذا المفهوم، فإن مفهوم القوة ارتبط بالممارسات الإكراهية، التي تجبر الآخرين على التصرف بطريقة معينة؛ أما مفهوم القوة الناعمة فيفتح الباب لدراسة القدرة على التأثير في سلوك الآخرين عبر الجاذبية والاحتواء، وليس عبر الإكراه.
القوة الناعمة هي قوة النموذج، وجاذبية الثقافة، وسمو القيم والمبادئ، والمصداقية في الالتزام بكل هذا. إنها امتلاك الخصائص التي تجعل الآخرين يتطلعون للدولة باعتبارها نموذجاً يحتذى، ومصدراً للإلهام.
القوة الناعمة هي القدرة على التأثير في الآخرين بحيث يصبح ما تريده هو نفسه ما يريدونه، وبحيث تصبح قيمك وثقافتك ومبادئك وطريقتك في الحياة هي النموذج الذي يودون احتذائه. انتشار الوجبات السريعة بعلاماتها التجارية الشهيرة من الولايات المتحدة لباقي أنحاء العالم يمنح أمريكا قوة ناعمة.
تعلق الناس في أنحاء العالم بسروال الجينز الأمريكي هو قوة ناعمة. سمعة الدانمارك باعتبارها البلد الأقل فساداً في العالم هو قوة ناعمة. الدقة المعروفة عن المجتمع السويسري هي قوة ناعمة. التطور الحضري المذهل في دبي والكفاءة الإدارية المذهلة في دولة الإمارات هي قوة ناعمة.
قد نفهم القوة الناعمة باعتبارها المقابل للقوة الخشنة ببعديها العسكري والاقتصادي، وقد نفهمها باعتبارها الضلع الثالث لمثلث القوة: قوة الإكراه، قوة المكافأة، قوة الإلهام؛ المعادلات الموضوعية للقوة العسكرية، وقوة الاقتصاد، وقوة الثقافة والأخلاق. القوتان العسكرية والاقتصادية تنتجان القدرة على المنع والمنح.
قوة الإكراه العسكرية تمنح صاحبها القدرة على تدمير الخصم وحماية الحلفاء. القدرة الاقتصادية تمنح صاحبها القدرة على مكافأة الحلفاء وحرمان الخصوم من المزايا والمنافع. القوة الناعمة لا تتيح القدرة على العقاب أو المكافأة، ولكن فقط القدرة على التأثير غير المباشر وعن بعد.
تمارس القوة العسكرية تأثيرها عبر مخاطبة غريزة البقاء. القدرة الاقتصادية، على الجانب الآخر، تمارس تأثيرها من خلال مخاطبة اشتهاء الثروة وغريزة الطمع. أما القوة الناعمة فتمارس تأثيرها من خلال مخاطبة تطلع الإنسان للسمو والامتياز.
القوة الناعمة، على أهيمتها، هي مفهوم مراوغ. يمكن قياس القوة الناعمة بعدد الناس الذين يتطلعون إلى الدولة بحثاً عن نموذج يحتذونه. لكن ألم يتطلع الملايين للاتحاد السوفييتي والصين الشيوعية وحتى ألمانيا النازية بحثاً عن الإلهام؟ أين هي جوانب السمو الأخلاقي في هذه النماذج المنقرضة؟ القوة الناعمة هي أيضاً قوة الأيديولوجيا، التي قد تكون خيّرة أو شريرة؛ فالقوة الناعمة ليست دائماً قوة أخلاقية.
القدرات العسكرية والاقتصادية هي من نوع القوة المادية التي يمكن قياسها بعدد القطعات العسكرية ومليارات الناتج والفائض الاقتصادي. مشكلة القوة الناعمة هي صعوبة قياسها بطريقة واضحة صريحة. القوة الناعمة هي شيء نشعر بوجوده، لكننا لا نستطيع قياسه أو الإمساك به.
هناك محاولات عدة لقياس القوة الناعمة، ولترتيب دول العالم وفقاً لمقدار ما تملكه منها. بسبب صعوبات القياس، فإن المقاييس العالمية للقوة الناعمة لا تصل إلى حد ترتيب كل دول العالم من حيث مقدار ما تمتلكه من قوة ناعمة، ولكنها تقتصر فقط على تصنيف الدول الأكثر امتلاكاً للقوة الناعمة، التي لا تزيد على ثلاثين دولة في أكثر المقاييس طموحاً.
مراجعة هذه المقاييس تبين أنه لا يوجد قوة ناعمة بغير قوة عسكرية واقتصاد قوي، وأن الدول صاحبة السبق في امتلاك القوة الناعمة هي نفسها قوى العالم العسكرية والاقتصادية الرئيسية، مع بعض الاستثناءات القليلة لحالات مثل الدانمارك وكوريا الجنوبية وفنلندا.
التناظر الذي يقترب من التطابق بين القوة الناعمة من ناحية، والقوة العسكرية والاقتصادية من ناحية أخرى، يثير الحيرة، حتى أنك لا تعرف ما إذا كان للقوة الناعمة وجود خاص مستقل، أم أنها ببساطة أحد نواتج الثروة والقوة العسكرية.
قد لا تكون القوة العسكرية أساسية في تكوين القوة الناعمة للدولة، لكن المؤكد أن القوة الاقتصادية للدولة وامتلاكها لجهاز إداري وإطار تنظيمي كفؤ وفعّال، ينتج الثروة، ويحقق رفاهية المجتمع هي شروط أساسية في تكوين القوة الناعمة.
القوة الناعمة مفهوم مهم، لكنها أيضاً مفهوم مراوغ، والأرجح أنه لا وجود للقوة الناعمة في غياب قدر مناسب من النجاح الاقتصادي، وجهاز سياسي وإطار تنظيمي كفؤ يقود المجتمع.