لم يكن من المنطقي أو المقبول أن تستمر حالة اللا حرب واللا سلم في الدولة الليبية إلى ما لا نهاية، وكذلك لم يكن من المنطقي أوالمقبول الاعتماد بشكل متكرر على الحلول التقليدية، في محاولات الوصول إلى تسوية شاملة ودائمة لهذا الوضع المعقد، وقد ثبت في أكثر من مناسبة، ومنذ إطاحة العقيد معمر القذافي قبل نحو ثماني سنوات - بتدخل مباشر من قوات حلف الأطلنطي، وكذلك قوى إقليمية أخرى - عقم كل هذه المحاولات القائمة على طرح تصورات متعددة للتسوية السياسية المنشودة.

وليس خافياً أنه في كل مرة اجتمع خلالها الفرقاء الليبيون وأقطاب العملية السياسية، كانت تولد آمال عظيمة بعد التوصل إلى اتفاق يحدد أسس التسوية على نحو ما، إلا أن هذه الآمال سرعان ما تبددت في كل مرة، بعد عودة الفرقاء إلى بلادهم، حيث يرتد كل فريق إلى معسكره، بنفس معتقداته وأهدافه الأصلية، بعيداً عما تم التوقيع عليه، ومن هنا، تعددت الاتفاقات السياسية، وكثرت المرجعيات المطروحة للتسوية في أكثر من عاصمة عربية وأوروبية، بجهود إقليمية أو أممية، ومن بينها، وأهمها على الإطلاق، اتفاق الصخيرات، الذي وضع خطة لإنهاء الانقسامات الليبية، وتوحيد الشرق والغرب، من خلال عملية سياسية، أساسها وضع دستور جديد، وإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية، عبر عملية ديمقراطية متكاملة.

إلا أن اتفاق الصخيرات ذاته فقد أهميته، وذهب أدراج الرياح، بعد فشله في تحقيق المراد من إبرامه أيضاً، بسبب عدم اتفاق الأطراف المعنية، وتشددها في التمسك بمواقفها، بعضها تحت ضغوط سياسية إقليمية من أطراف خارجية، كتركيا وقطر، وأيضاً أيديولوجية متمثلة في الجماعات الدينية المتطرفة، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمون.

وبات اتفاق الصخيرات وحكومة الوفاق التي ولدت من رحمه، فاقدي الشرعية، بعد مرور عام حددها الاتفاق كمرحلة انتقالية، وتعددت المراحل الانتقالية لاتفاقات عديدة بعد ذلك، وربما كان أهمها اتفاق باريس في بدايات العام الماضي، حيث وضع خطة سياسية ضخمة بحشد كبير من الأطراف الليبية والعربية والدولية، وحدد نهاية العام الماضي لإنجاز خطة التسوية بالدستور والانتخابات، إلا أن المرحلة الانتقالية ذاتها، الخاصة بالاتفاق، كانت عنواناً جديداً للجمود والفشل للاتفاق برمته، حيث لم ينجز من أهدافه شيء يذكر.

وبالتأكيد، تتحمل أطراف ليبية عديدة مسؤولية هذا الفشل، على الرغم من أن ما يجمع الأشقاء في ليبيا، أكثر بكثير جداً مما يفرقهم، فلا يوجد بينهم تناقضات عرقية أو مذهبية حادة، كتلك التي تؤجج الصراعات في دول عربية أخرى، وتجعل أسس التسوية السلمية فيها أكثر تعقيداً مثل العراق وسوريا.

ولكن هذا لا يعفي الدول الأوروبية وقوى إقليمية أخرى، من المسؤولية عما آلت إليه الأوضاع في الدولة الليبية، والحيلولة دون صياغة تسوية سياسية بآليات جادة وعملية، وصولاً إلى حالة سلمية دائمة ومستقرة، فتلك القوى، على سبيل المثال، ومثلما أعلن في أكثر من مناسبة، تتحمل المسؤولية مرتين، الأولى عندما دمرت الدولية الليبية بتدخلها العسكري الصريح في 2011، وتركتها نهباً للمليشيات المسلحة والجماعات المتطرفة، والثانية عندما تصورت أن معالجة الأوضاع الليبية لن يتم إلا بحلول أمنية أوروبية، هدفها الأول والأخير، حماية مصالح أوروبا، بوقف تدفق الهجرة غير الشرعية عبر الأراضي الليبية إليها، بينما ألقت قطر وتركيا بكل تأييدهما خلف الجماعات الدينية المتطرفة، ما أعطى المليشيات المسلحة الفرصة للتمدد وفرض هيمنتها على طرابلس وحكومة الوفاق.

وبكل تأكيد، ليس هناك من يقبل أو يوافق أو يسعد بإراقة دماء الليبيين أو إزهاق أرواحهم، أو نشر الخراب في ربوع الدولة الليبية، ولكن أغلب الظن أن حملة تحرير طرابلس، التي أطلقها المشير خليفة حفتر في الأيام الماضية، لتخليصها من المليشيات المسلحة والجماعات الإرهابية والمتطرفة، بهدف تمهيد الطريق لتوحيد الدولة الليبية، تتجنب الأسوأ، هذه الحملة العسكرية، نجحت في تحريك الكثير من المياه الراكدة، بل ووضعت أطرافاً ليبية وإقليمية ودولية أمام مسؤولياتها، وكشفت في الوقت ذاته عجزها عن تسوية الأزمة بحلولها العقيمة، أو بمواقفها المغرضة وأهدافها الخفية التي لا تعلي مصالح الدولة الليبية، بقدر حرصها على مصالحها الذاتية، اقتصادية كانت أو عقائدية أو أمنية.