ما يجري بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية، جدير بالمتابعة اللصيقة، باعتباره تجربة عملية في التفاوض والمناورة بين خصمين مسلّحين نووياً، وها هي كوريا الشمالية تطلق دفعة من الصواريخ قصيرة المدى، من قاعدة عسكرية على ساحلها الشرقي، فكيف نفهم هذا التطور، في إطار المسار الذي تتحرك فيه العلاقات بين البلدين؟.
في فبراير الماضي، فشلت قمة هانوي التي جمعت الرئيس ترامب والزعيم يونغ أون، لكن البلدين لم يسلّما بالفشل، فلكليهما مصلحة في التوصل لاتفاق. عدم الثقة هو سمة مؤكدة لعلاقات البلدين، فبينهما عداء موروث منذ زمن الحرب الباردة. بدأت المفاوضات بين أمريكا وكوريا الشمالية في التسعينيات، ومنذ ذلك التاريخ، هناك الكثير من الوعود التي لم يتم الوفاء بها، والالتزامات التي تم التراجع عنها، الأمر الذي فاقم أزمة الثقة المفقودة بين البلدين.
الطرفان متفقان على مواصلة التفاوض، رغم العقبات. انسحب الرئيس ترامب من جلسات التفاوض في قمة هانوي، لكنه لم ينسحب من التفاوض مع حكومة كوريا الشمالية. الكوريون الشماليون غاضبون من استراتيجية التفاوض الأمريكية، لكنهم ما زالوا يرغبون في التوصل إلى اتفاق مع العدو.
انسحب الرئيس الأمريكي من مفاوضات هانوي، لكنه تجنب توجيه اللوم لشريكه الزعيم يونغ أون. الكوريون الشماليون، بدورهم، يتجنّبون تحميل مسؤولية فشل المفاوضات للرئيس ترامب، ويعلقون الجرس في رقبة معاوني الرئيس، خاصة وزير خارجيته، مايك بومبيو، الذي وصف الكوريون الشماليون تصريحاته بالغبية والخطيرة، وطالب المتحدث باسم الحكومة الكورية، بإبعاده عن ملف المفاوضات.
يبدو أن الرئيس ترامب يشارك الزعيم كيم يونغ أون نفس التقييم، بشأن مسؤولية مساعديه عن تعثّر المفاوضات، وربما كان هذا هو السبب في أن الرئيس الأمريكي لم يكف عن إرسال الإشارات الإيجابية باتجاه كوريا الشمالية، منذ قمة هانوي الفاشلة. ففي مارس، ألغت الولايات المتحدة مناورات عسكرية كبرى، كان مقرراً إجراؤها بالاشتراك مع كوريا الجنوبية. في الشهر التالي، تقدمت الجهات المعنية في الحكومة الأمريكية، بمشروع لفرض عقوبات جديدة على كوريا الشمالية، وهو المشروع الذي رفضه الرئيس ترامب.
أما عندما أطلقت كوريا الشمالية صواريخها قصيرة المدى قبل أيام، فقد خفف الرئيس ترامب من وقع هذا التصرف، معرباً عن ثقته بأن الزعيم يونغ أون لن يتصرف بطريقة تتعارض مع التعهدات التي سبق له أن قدمها، وأكد على أن الاتفاق مع كوريا الشمالية قادم بلا شك.
الزعيم الكوري، على الجانب الآخر، طوّر استراتيجية تفاوض جديدة، تناسب مرحلة ما بعد قمة هانوي. تجنب إظهار الضعف، وإدخال أطراف جديدة في ملف المفاوضات، هو جديد استراتيجية التفاوض الكورية. القمة التي جمعت الزعيم يونج أون مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أبريل، هي أبرز التحركات الكورية في مرحلة ما بعد هانوي. اللقاء بين الزعيمين، هو لقاء تاريخي بأكثر من معنى، فهذا هو اللقاء الأول بين زعيمي البلدين منذ انهار الاتحاد السوفييتي.
لم يتم نشر الكثير عما دار في هذه القمة، لكن الرئيس بوتين صرح بعدها بأن الزعيم يونغ أون، طلب منه التحدث باسم بلاده مع الولايات المتحدة، بشأن الملف النووي. بعد ذلك بأيام، تواصل الرئيسان بوتين وترامب عبر مكالمة تليفونية، طالت لأكثر من ساعة، تحدثوا فيها عن عدد من الموضوعات، من بينها كوريا الشمالية.
وأخيراً، جاءت دفعة الصواريخ الكورية الشمالية قصيرة المدى، لتنطوي على تسخين، لكنها لا تنطوي على مفاجأة أو تصعيد. السلاح الذي تم إطلاقه مملوك لكوريا منذ زمن، وهو سلاح تكتيكي، لا يزيد مداه على المئة كيلو متر سوى بقليل.
يختلف هذا بالتأكيد عن الصاروخ العابر للقارات، الذي أطلقته كوريا الشمالية في نوفمبر 2017، وهو صاروخ قادر على الوصول لأراضٍ أمريكية. لقد أعقب إطلاق الصاروخ العابر للقارات، تصعيداً لفظياً حاداً بين واشنطن وبيونغ يانغ، لينتهي الأمر بعقد أول قمة بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية في سنغافورة، في يونيو 2018، أي بعد تجربة الصاروخ بستة شهور.
من المرجح حدوث شيء مثل هذا، بعد دفعة الصواريخ قصيرة المدى الأخيرة، والتي انطوى إطلاقها على استعراض للقوة، وتذكير بقدرات كوريا الصاروخية، ولكنه استعراض حذر، لا يمثل تهديداً أو تحدّياً للولايات المتحدة. لهذا، جاء رد فعل الرئيس ترامب ناعماً وهادئاً، وفي هذه المرة أيضاً، يتوقّع المراقبون أن يعقب إطلاق الصواريخ انفراجة جديدة في المفاوضات بين البلدين.
* كاتب ومحلل سياسي