انهزم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحزبه خلال الشهر الأخير مرتين، مرة عندما خسر مقاعد كانت له في البلديات والمحليات، ومرة ثانية عندما تصرف برعونة وسلطوية، وتلاعب بكل القواعد من أجل إعادة الانتخابات في إسطنبول. خسارة الانتخابات هي أمر يمكن أن يحدث لأي حزب في نظام ديمقراطي، لكن الخسارة الثانية أكثر فداحة وأخطر أثراً، فتحدي إرادة الناخبين، والتلاعب بها، وإساءة استغلال السلطة من أجل تحقيق مكاسب سياسية، واختلاق الوقائع وتفسير القانون بطريقة تحكمية لخدمة مصالح حزبية، كل هذا يقوض الأساس المبدئي والأخلاقي لحزب العدالة والتنمية، ويؤشر على قرب انتهاء الحقبة التي هيمن خلالها الحزب على السياسة التركية.

رغم أن حزب العدالة والتنمية ما زال أكبر الأحزاب التركية، إلا أن ظاهرة حزب العدالة والتنمية الذي لا يعرف الهزيمة الانتخابية قد انتهت، وشهدت شعبية الحزب تراجعاً مستمراً خلال السنوات الأخيرة. فهزيمة العدالة والتنمية في الانتخابات المحلية الأخيرة ليست هي الأولى، ولكنها الأحدث والأبرز بسبب خسارة الحزب للمدن الرئيسية التي طالما كانت مركزاً رئيسياً لقوته. فاز العدالة والتنمية بأغلبية مقاعد البرلمان في انتخابات 2002، 2007، 2011؛ لكنه خسر الأغلبية في انتخابات يونيو 2015، فقام أردوغان بالتلاعب بالوضع السياسي في البلاد لتعظيم الإحساس بالخطر الكردي، ثم دعا لانتخابات مبكرة في نوفمبر من العام نفسه، فاستعاد الحزب أغلبيته البرلمانية، لكنه عاد وخسرها في انتخابات 2018، فاضطر للدخول في تحالف مع حزب الحركة القومية لتكوين أغلبية تمكنه من مواصلة الحكم؛ وها هو الحزب يخسر مؤيديه في المدن الكبرى في الانتخابات المحلية الأخيرة.

لقد انتهت حقبة العدالة والتنمية نتيجة لإخفاق الحزب في الوفاء بالوعود التي قطعها على نفسه في سنواته الأولى. قدم حزب العدالة والتنمية نفسه للناخبين باعتباره حزباً محافظاً، من غير أن يكون حزباً دينياً، وباعتباره حزباً ديمقراطياً، يتمسك بنظام الدولة العلماني، رغم أن من بين أعضائه الكثير من المتدينين. قدم العدالة والتنمية نفسه باعتباره الحزب القادر على تحقيق نهضة اقتصادية لبلاده، وباعتباره الحزب الذي سيفوز لتركيا بعضوية الاتحاد الأوروبي، والحزب الذي سينهي مشكلات تركيا مع الجيران، لتأسيس مرحلة جديدة يتعزز فيها التعاون بين تركيا ودول الإقليم. هذه هي الصورة التي قدمها العدالة والتنمية عن نفسه للناخبين لسنوات عدة، والتي راح يخونها بعد ذلك.

راقت صيغة الحزب المحافظ غير الديني، والحزب العلماني غير المعادي للإسلام للناخبين الأتراك، فقد رأى فيها الكثيرون حلاً لمشكلة الصراع بين القومية والحداثة من ناحية، والدين والتقاليد الثقافية من ناحية ثانية، وهو الصراع الذي سيطر على السياسة التركية أغلب فترات القرن العشرين. غير أن العدالة والتنمية سرعان ما كشف عن نفسه حزباً دينياً بعقيدة إخوانية، فقام بإدخال العديد من التغييرات على البنية التشريعية والثقافية في تركيا لتتلاءم مع هذه العقيدة، وعدل دستور البلاد مرتين، وقاد البلاد بعيداً عن الصيغة العلمانية الديمقراطية التي تظاهر بالتمسك بها.

لقد أضاع أردوغان البوصلة تماماً، فلم يعد هناك من يأخذ مسألة انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي بجدية، فيما باتت عضوية تركيا في حلف الأطلنطي تحدياً وعبئاً على الحلف، أما الإنجاز الاقتصادي الذي طالما تباهى به أردوغان فقد وصل إلى نهايته بعد أن دخل الاقتصاد التركي في مرحلة ركود، مبيناً استحالة الجمع بين النمو الاقتصادي والمغامرات الخارجية. لقد تبنى نظام أردوغان عقيدة الإخوان، وراح يروج لها في دول الإقليم، وسع لتوظيفها كأداة للهيمنة الإقليمية، حتى أصبحت تركيا أهم راعٍ للإرهاب في المنطقة.

لقد عجلت سنوات الاضطراب العربي الذي بدأ في عام 2011 بانكشاف الوجه الحقيقي للعدالة والتنمية، فبعد سنوات قدم فيها الحزب نفسه باعتباره نصيراً لسياسة «صفر صراعات مع الجيران»، تعرضت السياسة الخارجية التركية لعملية عسكرة عميقة، فوجدنا تركيا تحتل أجزاءً من سوريا، وتدعم هناك جماعات إرهابية متطرفة، وتنشر قواتها في مناطق شمال العراق، وتبني قواعد عسكرية في مناطق بعيدة مثل قطر والقرن الأفريقي.

الإخفاقات التي وقع فيها العدالة والتنمية هي نتيجة لتسلط رجب طيب أردوغان على قيادة الحزب، الذي تحول من جبهة واسعة بين تيارات عدة تقع في منطقة يمين الوسط، إلى حزب سلطوي، تتركز فيه السلطة في يد زعيم الحزب. لقد انفرط عقد الجبهة التي تشكل منها العدالة والتنمية لأول مرة عام 2001، وكان انقلاب أردوغان على تيار فتح الله غولن هو أخطر فصول هذا الانفراط، وانسحب رفاق أردوغان القدامى من العدالة والتنمية، وشرعوا في تشكيل أحزاب وائتلافات معارضة ينتظر لها أن تغير خريطة السياسة التركية في المستقبل غير البعيد.

كاتب ومحلل سياسي