كلنا يريد للعدل أن يسود في العلاقات بين الدول، وكلنا يريد علاقات دولية يسودها السلام، تخلو من الصراعات والصدمات والمفاجآت غير السارة. المشكلة هي أن العدل والسلم قد لا يلتقيان، وأن اعتبارات العدل قد تتعارض في مرات كثيرة مع اعتبارات السلم، وأن التضحية بإحدى القيمتين، قد يكون إجبارياً في بعض الأحيان، فيما يتمثل الحل في أحيان أخرى، في تحصيل بعض من العدل وبعض من السلم، في تسوية يندر أن تكون عادلة.

العدل هو وضع الشيء في نصابه، وهو حفظ الحقوق لأصحابها، أو إعادتها لهم، وأي وضع يخالف ذلك يكون منافياً للعدل، وينطوي على هضم لحق، وظلم لدولة من الدول، وشعب من الشعوب. عندما تغتصب دولة أراضي دولة أخرى، فهذا ظلم، لا يمكن إصلاحه إلا بإقامة العدل، عبر إعادة الحق لأصحابه. غير أن المعتدي لا ينصاع طوعاً لنداء الحق، وفي أغلب المرات، لا يكون هناك مفر من اللجوء للقوة لإجباره على ذلك.

المشكلة هي أن اللجوء للقوة – ولو من أجل استعادة الحق وإقامة العدل – يهدد السلم والاستقرار، وانتظام العلاقات بين الدول، وفيه تضحية بأرواح وممتلكات، وتدمير لموارد وثروات، الأمر الذي يفرض علينا في أغلب الوقت، الاختيار بين العدل والسلم، وهو اختيار صعب ومحفوف بالمخاطر. فإعطاء الأولوية للسلم على حساب العدل، يشجع المعتدي، ويغريه على المزيد من العدوان، فيما إعطاء الأولوية للعدل، يهدد بالتورط في صراعات لا تنتهي، يهدر فيها حق الشعوب في حياة آمنة مزدهرة، دون أن يؤدي هذا بالضرورة إلى الاقتراب من تحقيق العدل. لا شيء يبين صعوبة التوفيق والاختيار بين العدل والسلم، قدر المأساة الفلسطينية، المستمرة منذ أكثر من سبعين عاماً.

لا أمن ولا استقرار بغير عدل، لكن العدل مفهوم مراوغ، تتعدد تعريفاته بتعدد أطراف النظر في المشكلة، فحتى أعتى المعتدين وأكثرهم فجاجة، لديه سرديته ومفهومه الخاص عن العدل. هل شبه جزيرة القرم أوكرانية أم روسية؟، لقد تم نقل تبعية القرم من روسيا إلى أوكرانيا في عام 1954، عندما كان البلدان جزءاً من الاتحاد السوفييتي، وهو ما يمنح لأوكرانيا حقاً مؤكداً في شبه الجزيرة. لكن القرم كانت جزءاً من روسيا لمئتي عام قبل ذلك، وما زال أغلب سكانها من الروس، الذين حارب أجدادهم عدة مرات لانتزاعها من العثمانيين.

لقد تنازلت روسيا عن القرم لجمهورية أوكرانيا، العضو في الاتحاد السوفييتي، الذي تهيمن عليه روسيا، وليس لأوكرانيا المستقلة المعادية لروسيا، بما يمنح الأخيرة الحق في استعادة شبه الجزيرة، التي كانت تاريخياً جزءاً منها. لا يوجد تعريف واحد للعدل في موقف كهذا، فأوكرانيا تتبنى تعريفاً للعدل يقوم على قدسية الحدود الدولية، وعدم جواز الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة، فيما تتبنى روسيا تعريف العدل، يقوم على الحقوق التاريخية والحقائق الديموغرافية.

استخدمت روسيا قوتها المسلحة لاحتلال شبه جزيرة القرم، وإقامة وضع جديد يناسب فهمها لما تراه عدلاً، الأمر الذي تسبب في أزمة دولية، عصفت باستقرار النظام الدولي، وهي الأزمة التي ما زالت مستمرة منذ خمس سنوات.

لا يوجد في الأفق ما يشير إلى أن روسيا سوف تكون مستعدة في وقت ما للتخلي طوعاً عن وضعها الجديد في القرم، أما أوكرانيا وحلفاؤها، فإما أن يجبروا روسيا على الانصياع باستخدام القوة المسلحة، بكل ما في هذا من تهديد للسلم الدولي، أو يقبلوا بأوضاع وتسويات تتنافى مع العدل، لكنها تحفظ استقرار وأمن العالم.

القانون الدولي هو أفضل ما لدينا من أدوات تساعد على إقامة العدل وحفظ الاستقرار والأمن في الوقت نفسه. غير أن القانون الدولي ليس كتالوجاً أو كتاب تعليمات للعلاقات بين الدول، تحصل على أفضل النتائج كلما اتبعته بدقة.

القانون الدولي هو شيء أقرب لـ «مدونة سلوك»، تتوافق عليها الدول، وتطبقها طوعاً واختياراً، دون أن تكون هناك سلطة مخولة بوضع المبادئ والقواعد المشمولة في هذه المدونة موضع التطبيق، خاصة لو احتاج الأمر لإكراه الدول على ذلك.

في القانون الدولي من المرونة ما يسمح بتعريف العدل بطرق متعددة، الأمر الذي يسمح للروس والأوكرانيين، الفلسطينيين والإسرائيليين، الأمريكيين والإيرانيين، بادعاء الالتزام بقواعد القانون الدولي. القانون الدولي يعترف للدول الخمس الكبرى بمكانة مميزة، رغم ما ينطوي عليه ذلك من تعارض مع قواعد العدل بين الدول.

يتيح القانون الدولي مبادئ وأساليب للمقايضة، والتوصل لحلول وسط بين التعريفات المتعارضة للعدل، وللموازنة بين دواعي العدل ودواعي السلم والأمن، وللموازنة بين مبادئ الأخلاق وحقائق القوة، لكن الأخيرة تظل هي العامل الأكثر قدرة على حسم التناقضات، والأداة الأكثر نجاعة، لكن فقط في يد من بإمكانهم تحمل تكلفة استخدامها.

 

 كاتب ومحلل سياسي .