الموقف في الخليج يتطور بسرعة، ومن الصعب التنبؤ بالوضع الذي ستكون عليه المنطقة حين يصبح هذا المقال متاحاً للقراء. مع هذا فإن أهمية الخليج وما يجري فيه من تطورات تستحق مغامرة الكتابة عن حدث مازال قيد التشكل، وفيه قد تذهب الوقائع بعيداً جداً عن التحليلات.
منذ سنوات وإيران تتدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة، وتوسع نفوذها في الإقليم عبر عملاء ووكلاء متنوعين، وأيضا عبر التدخل المباشر كما هو الحال في سوريا. وبينما تدرك دول العالم مغزى التحركات الإيرانية، فإن الرغبة في إيثار السلامة، وتجنب الدخول في مواجهة مع دولة لها باع في رعاية الإرهاب والتخريب، خلق لدى قادة إيران انطباعاً بأنهم يستطيعون مواصلة التوسع في الإقليم على حساب الجيران دون أن يكون لأحد القدرة على إيقافهم، وأن أساليب البلطجة والتخويف كافية لابتزاز الخصوم وردعهم، فيما تضمن لحكام إيران حصانة من العقاب.
البلطجة النووية هي أعلى مراحل البلطجة والابتزاز الإيراني، وبها نجحت إيران في إثارة الفزع بين الدول، فقادت إدارة الرئيس أوباما الدول الكبرى لتوقيع اتفاق نووي مع إيران، تأجل بمقتضاه امتلاك إيران لسلاح نووي لعشرة أعوام، مقابل إسقاط كافة القيود والعقوبات الموقعة بحقها، ودون أي التزام يتعلق بالتهديد الإيراني المتواصل لدول المنطقة.
لدي الكثير من الخلافات مع سياسات الرئيس الأمريكي ترامب، لكني لا أستطيع الاختلاف معه في أن الاتفاق النووي مع إيران هو اتفاق سيئ بكل المعايير، فقد حصلت إيران بمقتضى هذا الاتفاق على كل شيء، فقط مقابل إعادة جدولة لعملية إنتاج السلاح النووي. الاتفاق النووي لا يجنب المنطقة والعالم مواجهة هي بالتأكيد صعبة وخطيرة مع إيران، فهولا يفعل أكثر من تأجيل هذه المواجهة للحظة تكون فيها إيران أكثر قوة ومناعة، وتكون المواجهة معها أكثر تكلفة وخطورة.
هذا ما انتبهت له دول المنطقة، منذ البداية، وهذا هو ما انتبه له الرئيس ترامب منذ انتخابه، والمطلوب هو تعريض إيران لضغوط تجبرها على التخلي عن سياساتها العدوانية. لا أحد يريد تغيير نظام الحكم في إيران، فهذا أمر يخص الشعب الإيراني، أما السياسة الخارجية العدوانية فهي أمر يخص المتضررين من هذه السياسة في المنطقة والعالم.
العقوبات الأمريكية التي طبقتها إدارة الرئيس ترامب على إيران هي الأشد منذ قيام نظام الملالي في طهران. لقد تركت هذه العقوبات آثارها على الاقتصاد الإيراني، الذي انكمش بنسبة 4% العام الماضي، ويتوقع له أن ينكمش بنسبة 6% إضافية هذا العام. الآن فقط أصبحت المعادلة واضحة أمام حكام طهران: يمكنكم مواصلة السياسات العدوانية في الإقليم، لكن عليكم أن تدفعوا ثمن هذا من رفاهية شعبكم وشرعية نظامكم ورضا المواطنين الإيرانيين عنكم. يمكنكم مواصلة تمويل الأتباع من جماعات الإرهاب والتعصب المذهبي في بلاد المنطقة، ولكن عليكم أن تدفعوا تكلفة ذلك خصماً من نصيب المواطن الإيراني في ثروة بلاده. بإمكانكم امتلاك سلاح نووي، ولكن فقط كبلد معزول فقير؛ أما أن تملكوا السلاح النووي مثل كوريا الشمالية، وتملكوا الثروة والتقدم الصناعي والتجاري والاندماج في العالم مثل أي بلد يلتزم بقواعد السلوك الدولي؛ لتوظفوا كل هذا في النهاية من أجل الهيمنة على الجيران والتلاعب بهم، فهذا ما لن يمكنكم أحد منه.
حرمت العقوبات الأمريكية حكام إيران من القدرة على مواصلة التصرف مثل المخادع الذي يظن أن بإمكانه الحصول على كل شيء بلا ثمن. وضعت العقوبات الأمريكية حكام طهران أمام الاختيار، إما الهيمنة وإما الرفاهية. حكام طهران يريدون الفوز بكل شيء، وغير قادرين على الاختيار، لهذا قرروا القفز إلى الأمام، فتجاهلوا المشكلة التي عليهم التعامل معها، وخلقوا مشكلة جديدة يظنون أنهم أقدر من خصومهم على إدارتها؛ فإذا كان الخصوم متفوقين في إدارة الاقتصاد وشبكات المال والتجارة، فحكام إيران يظنون أنهم أكثر حذقاً في إدارة عمليات التخريب والإرهاب. دبر حكام إيران الاعتداءات على ناقلات النفط، ولسان حالهم يقول إنه إذا كانت العقوبات تمنعنا من تصدير النفط، فإنه ليس لأحد آخر أن يصدر نفط بلاده.
عند هذه النقطة لم يعد السؤال المطروح هو سؤال العقوبات، وإنما سؤال الردع، وما إذا كانت إيران ستنتزع لنفسها الحق في اختطاف تجارة الطاقة الدولية رهينة لاختياراتها؛ وما إذا كانت تستطيع أن تفعل ذلك محصنة من العقاب؛ وما إذا كانت هناك طريقة لمعاقبة إيران على أفعالها، دون أن تكون المنطقة والاقتصاد العالمي كله مضطراً لدفع التكلفة. هذا هو سؤال الوقت في الخليج.