عقل بارد لا يعرف سوى حسابات المكسب والخسارة، ذلك هو ما يحتاجه القادة لإدارة أزمة من ذلك النوع الذي تصنعه إيران الآن في الخليج.

الأحداث المتسارعة تضع العقل الاستراتيجي تحت ضغط، وإيران تتعمد التصرف باستفزاز مليء بالتحدي والاستهانة، الأمر الذي يثير الغضب، ويحد من القدرة على التمسك بالحسابات الاستراتيجية الرصينة، ويضع الغضب والرغبة في رد الإهانة في المقدمة، بديلاً عن حسابات العقل والرغبة في الفوز؛ ولتجنب الانجرار وراء دوافع العاطفة، فإن جرد الحقائق، ومراجعة حسابات المكسب والخسارة يكون ضرورياً في هذه المنعطفات.

العقوبات الاقتصادية الأمريكية تؤلم إيران. هذا أمر مؤكد. لقد نما الاقتصاد الإيراني بنسبة 12.3% في العام التالي لتوقيع الاتفاق النووي مع الرئيس أوباما، أما بعد تطبيق عقوبات الرئيس ترامب فقد تراجع الاقتصاد الإيراني بنسبة 4% العام الماضي، ويتجه للتراجع بنسبة 6% إضافية هذا العام.

صدرت إيران 2.3 مليون برميل من النفط قبل عقوبات ترامب، وانخفضت صادراتها إلى 1.1 مليون برميل بعد الموجة الأولى من العقوبات الأمريكية.

النفط هو عصب الاقتصاد الإيراني، ومع انهيار صادرات النفط انهارت العملة الإيرانية الريال، ففقدت 60% من قيمتها خلال العام الأخير، الأمر الذي عكسته الفجوة المتزايدة بين السعرين الرسمي والحقيقي للعملة الإيرانية، ففيما تفرض الحكومة 42 ألف ريال سعراً للدولار الأمريكي، يجري تداول العملة الإيرانية في السوق بسعر 145 ألف ريال للدولار الواحد؛ والنتيجة هي ارتفاع كبير في الأسعار وانخفاض في مستوى المعيشة، ففي حين وصل التضخم في العام الماضي إلى 31%، فإنه قد يصل إلى 40% هذا العام إذا تواصل إحكام القيود الإيرانية على إيران.

كانت الولايات المتحدة قد استثنت ثماني دول من حظر استيراد النفط الإيراني لمدة ستة شهور انقضت في مطلع مايو، مما تسبب في تخفيض صادرات إيران من النفط إلى نصف مليون برميل.

لم تكن مصادفة أن يشتعل التوتر في المنطقة في الوقت الذي قاربت فيه صادرات النفط الإيرانية من الوصول إلى الصفر، فمنذ نهاية أبريل الماضي والتوتر يتصاعد في المنطقة، بعد أن قررت إيران التخلي عن سياسة الصبر الاستراتيجي، والانتقال إلى استراتيجية التصعيد.

حتى أبريل ظنت إيران أنها تستطيع الكمون والصبر على إدارة الرئيس ترامب حتى يحين موعد رحيلها المحتمل نهاية العام القادم، لكن بعد الألم غير المحتمل الذي تسببت فيه العقوبات الاقتصادية قررت إيران الانتقال إلى استراتيجية جديدة، تقوم على تأزيم الوضع إلى نقطة يكون عندها التفاوض مطلباً ضرورياً لكل الأطراف، على أمل أن تجد في المفاوضات مخرجاً من الضغوط الاقتصادية التي لم تعد تحتمل الصبر عليها.

التصعيد في الخليج هو تنفيذ لاستراتيجية إيرانية محسوبة، فخلال الشهر الأخير تعرضت ست ناقلات للاعتداء بالقرب من مضيق هرمز، وتعرضت منشآت نفط ومطارات سعودية لعدة اعتداءات قامت بها جماعة الحوثي، الذراع الإيرانية في اليمن.

لقد أنكرت إيران صلتها بهذه الهجمات، التي لم يوجه أي منها ضد الولايات المتحدة. لكن الأزمة دخلت منعطفاً جديداً بعد إسقاط طائرة استطلاع أمريكية من طراز «غلوبال هوك»، واعتراف إيران بالمسؤولية عن الحادث، بدعوى انتهاك الطائرة الأمريكية للمجال الجوي الإيراني، فهذه هي المرة الأولى منذ بداية الأزمة التي يوضع فيها البلدان في مواجهة بعضهما عسكرياً.

إسقاط الطائرة الأمريكية يشير إلى نفاد صبر إيراني، وإلى أن ضرب الناقلات والمنشآت السعودية لم يكن كافياً لجر الأمريكيين إلى تصعيد ومواجهة تنتهي بالتفاوض، الأمر الذي جعل التحرش بالولايات المتحدة مباشرة أمراً ضرورياً.

كادت الولايات المتحدة أن ترد عسكرياً على إسقاط طائرة الاستطلاع لولا تدخل الرئيس ترامب في اللحظات الأخيرة.

تقييم قرار الرئيس ترامب بالامتناع عن ضرب إيران يعتمد على تقييم الفارق بين الوضع الراهن، وبين الحال الذي كان يمكن للأمور أن تصل إليه لو تم تنفيذ الضربة، فعندها كان من الممكن الانزلاق إلى دوامة من الرد والرد المضاد.

توظف الحكومة الإيرانية الأحداث الراهنة لتعبئة الشعب، ولاستعادة ثقة الناس المفقودة فيها، فبعد قليل سيتبين الإيرانيون أن بلادهم مازالت عاجزة عن تصدير النفط، وأن الأسعار باتت أغلى مما يستطيعون تحمله؛ وعندها لن تكون دعاية النظام مقنعة لملايين الإيرانيين الباحثين عن عمل وعن توفير متطلبات الحياة.

العقوبات سلاح فعال ضد عدوانية حكام طهران، وهو سلاح لا يملكون رده بطريقة مناسبة؛ لهذا يحاولون جاهدين إشعال حرب، وجر المنطقة لميدان التخريب والإرهاب الذي يجيدونه، فعندها قد ينفتح الباب لمفاوضات تضع حداً للحرب والعقوبات معاً.

من الأفضل حرمان حكام طهران من فرصة الحرب التي يبحثون عنها، دون حاجة لتكرار التأكيد على أننا لا نريد الحرب. فقط واصلوا فرض الحصار الاقتصادي على إيران بإحكام، وسترون النتيجة.