السياسة والاقتصاد مترابطان منذ بدء الخليقة، وطوال أغلب فترات التاريخ دارت الحروب بين الدول من أجل السيطرة على الموارد، أي على الأرض وما تضمه من ثروات. ارتبط صعود أوروبا بحروب شنتها جيوش الأوروبيين في كل ركن من أركان المعمورة، للاستيلاء على المستعمرات والفوز بثرواتها. حروب القرن العشرين العالمية كانت محاولة من الأمم الأوروبية التي وصلت متأخرة لإعادة تقسيم عالم كانت القوى الاستعمارية الأقدم عهداً سبق لها اقتسامه فيما بينها.

منذ منتصف القرن العشرين تمايزت السياسة الخارجية عن السعي وراء الثروة، وإن لم تنفصل عنها. أصبحت الثروة من اختصاص السوق، فيما السلطة السياسية تدير السياسة الخارجية لتحقيق الأمن والكرامة والسلامة الوطنية. لم تتوقف حكومات الدول الكبرى عن الاهتمام بقضايا الثروة، ولكنها ركزت فقط على الرئيسي والاستراتيجي منها، بعد أن حولته إلى قضية أمنية - أمن الطاقة نموذجاً. بمقتضى هذا التمييز أصبحت شؤون الاقتصاد والتنمية سياسات دنيا، فيما سياسات الأمن والتسلح والاستراتيجية والجغرافية السياسية سياسات عليا.

التمييز بين السياسة الدنيا والعليا أصبح ممكناً بعد أن اطمأنت حكومات الدول الكبرى في العالم الرأسمالي إلى سلامة نظام السوق العالمي، وإلى قدرته على حماية مصالحها المستقرة، دون تدخل مباشر وصريح من حكومات انصرفت للاهتمام بما اعتبرته سياسة عليا، غير أن التمييز بين السياسة والثروة هو ترف لا تستطيعه الدول النامية الناشئة والصاعدة، وأغلبها دول فقيرة ذات اقتصاد بدائي بسيط، ولا خيار لها إلا أن تضع الاقتصاد والتنمية على رأس أولوياتها السياسية. هذا هو ما فعلته الصين بنجاح، فكان فتح الأسواق الخارجية، وجذب الاستثمارات، وتأمين واردات الطاقة، وتطوير التكنولوجيا، وتحديث البنية التحتية والنظام الإداري، كل هذا على رأس أولويات الدولة الصينية، فكان هو سياستها العليا.

لكن الصين ليست مجرد دولة نامية تسعى حكومتها لإخراج جموع الشعب من الفقر، لكنها أكبر دول العالم من حيث السكان، ولها تاريخ وحضارة عريقة، ومشاعر قومية متقدة، واعتقاد عميق بأنها الأمة الأفضل والأعلى، والتي حرمها الاستعمار مما تستحقه من مكانة دولية لائقة، حان وقت استرجاعها.

تلاعبت بكين بقواعد النظام الدولي للتجارة الحرة، ففرضت سعراً منخفضاً لصرف عملتها الوطنية، وجعلت السلع الصينية أرخص من السلع المنافسة، فتمكنت المنتجات الصينية من غزو أسواق العالم، وسعت الدولة الصينية عبر تدبير محكم لوضع يدها على الأسرار التكنولوجية والتجارية. أدركت الصين أن سوقها الكبير، والفائض الهائل من قوة العمل الصينية الرخيصة هي مزايا ومصدر قوة هائلة، يسيل لها لعاب مستثمرين، أجبرتهم الصين على مشاركتها أسرار معارفهم التكنولوجية كشرط لدخول سوقها الكبير. تحولت قرارات التجارة والاستثمار في الصين إلى سياسات عليا، فتم تسييس الأسواق إلى درجة لم تشهدها العلاقات بين الأمم من زمن طويل.

لم تكن الممارسات الصينية خافية على القائمين على الأمر في الولايات المتحدة، لكنهم قللوا من خطورتها، خاصة أن هذه الممارسات لم تضر بالشركات والمصالح الكبرى، على العكس فقد نقل هؤلاء مصانعهم للصين، واستفادوا من العمالة الصينية الرخيصة والسوق الكبير، فحققوا المزيد من المكاسب، فيما كان العمال الأمريكيون والاقتصاد الأمريكي يخسر كل يوم وظائف وفرص تصدير، حتى جاء الرئيس ترامب فقرر تحدي هذا الوضع، وقام بفرض جمارك على السلع الصينية الداخلة للسوق الأمريكي، وفرْض قيود على نقل التكنولوجيا للصين.

الصين تواجه الولايات المتحدة، متسلحة بالسوق الكبير ذي المليار ونصف المليار نسمة، والذي أصبح مجالاً رئيسياً تعتمد عليه شركات أمريكية كبيرة كمصدر لقوة العمل الرخيصة ولتصريف منتجاتها، فيما الولايات المتحدة تواجه الصين متسلحة بسوق أكثر ثراء، فواردات الولايات المتحدة من الصين تزيد بأكثر من أربع مرات عن واردات الصين من الولايات المتحدة، وفوق ذلك فإن الولايات المتحدة تواجه الصين وفي يدها سلاح التكنولوجيا المتقدمة المستخدمة في إنتاج السلع الاستهلاكية، والبرمجيات، ووسائط إنتاج وتبادل وتحليل المعلومات.

لقد تحولت الأسواق والتكنولوجيات المدنية إلى أسلحة في المواجهة الأمريكية الصينية، ولم تعد مجرد مكونات بريئة محايدة في سوق اقتصادي يستهدف الربح والرفاهية بعيداً عن صراعات السياسة وحساباتها. كشفت المواجهة الصينية الأمريكية عن حدود التمييز والفصل بين السياسي والاقتصادي في العلاقات الدولية، فأسقطت قناع البراءة الاقتصادية والحياد التنموي عن دول تسعى للهيمنة.