تونس في مفترق طرق. رحل آخر مؤسسيها، الباجي قايد السبسي. كانت وصيته الأخيرة هي الحفاظ على الدولة، تولى القيادة في توقيت صعب، نجح في مهمته وحافظ على مؤسسات الدولة، ترك بصمة قوية شاهدها العالم في جنازة وداعه الأسطوري.

صمت الباجي، وتحدثت تونس عن مستقبلها. ما الذي ينتظرها؟ ما هو المطلوب من الشعب التونسي للبناء على ما أسسه الباجي؟! هل تونس التي اتخذ منها ما يسمى الربيع العربي نقطة انطلاق ستتعلم الدرس؟! وهل تدرك القوى السياسية مخاطر ما يحاك للمنطقة من مؤامرات؟! علامات استفهام عدة تطرح نفسها في توقيت حرج.

بداية لا أحد ينكر حجم الإنجازات السياسية التي بذلها الرئيس الراحل الباجي في احتواء التشرذم والانقسام في الشارع التونسي منذ أن تولى مهمة القيادة عام 2014، كما لا يستطيع أحد إنكار دور رجل يعرف القيمة التاريخية لدولته حتى آخر نفس، لكن وسط هذه الإنجازات، ووسط امتنان عالمي لما قام به الباجي من أجل الحفاظ على تونس علينا أن ندرك أيضاً أن رحيله ضاعف حجم المخاطر والتحديات في إدارة المستقبل.

القوى المتنازعة عدة. أجنحة سرية وأخرى علنية، أجندات داخلية وأخرى خارجية تتصارع جميعها على الوصول إلى الكرسي القابع في قصر قرطاج.

قراءة الشارع السياسي التونسي، تقول إن الذين خرجوا في المشهد المهيب لوداع الباجي صارت لديهم قناعة كاملة بضرورة الاستقرار والحفاظ على دولة مؤسسية لم تحقق من أحداث الربيع سوى الخسائر التي ضربت اقتصادها في مقتل، وبالتالي فإن هذه الأغلبية تعلمت من الأخطاء الماضية، وفي الوقت ذاته لديها قياسات صحيحة الآن لما يجري في المنطقة، الأمر الذي يدفعنا إلى أن هذه النسبة الغالبة في تونس جاهزة لخوض الاختبار الحقيقي الذي تركه لهم الرئيس الباجي.

أما الفريق الآخر في حسابات المستقبل السياسي التونسي، فهو الذي يعبر عن جماعة الإخوان «حركة النهضة»، وهذا الفريق يستحق وقفة وقراءة متأنية من الشعب التونسي سيما أن له امتدادات وتشابكات خارجية له أجندة إقليمية في مقدمة أهدافها العودة بكل قوة إلى الحكم في تونس، فهو يرى أن الفرصة مواتية له، مراهناً على استلهامه لأجواء ما عرفت بثورة الياسمين عام 2011، بالإضافة إلى المحاولات المستميتة من قبل التنظيم الدولي للإخوان لاستقطاب وعقد صفقات وابتزاز قوى سياسية أخرى في المعادلة الحالية.

أيضاً ما يضاعف من خطورة حسابات هذا الفريق، هو الدعم الكبير الذي يتلقاه من قطر وتركيا اللتين تعتبران أن هذه اللحظة في تونس من الممكن أن تشكل البداية لعودة هذا التنظيم، واستكمال ما فشل في تحقيقه خلال السنوات الماضية، غير أن الدوحة وأنقرة متفقتان على أن الدفع بالإخوان إلى الحكم في تونس ربما يكون دافعاً قوياً لتحقيق مآربهم في ليبيا، خاصة أن جغرافيا الوجود الفعلي لإخوان ليبيا في طرابلس ومصراتة قريب من الحدود التونسية.

ما يؤكد ذلك أن معلومات تقول إن اتصالات مستمرة خلال الأيام الماضية بين حركة النهضة، والدوحة وأنقرة، وأن هناك تبادل مراسلات ومبعوثين بين الأطراف الثلاثة لترتيب الأوراق التونسية وفقاً لمصلحة هؤلاء.

هذه الأجواء تدفعنا إلى دق ناقوس الخطر أمام القوى السياسية الوطنية والشعب التونسي لأن يكون يقظاً ومتماسكاً وعقلانياً وحذراً في الاختيارات الرئاسية المزمع إجراؤها في سبتمبر المقبل، والتي بناءً عليها سيتم تحديد ملامح الانتخابات البرلمانية التي تعقبها، وبالتالي فإن المطلب العاجل والضاغط في المشهد السياسي التونسي هو الحفاظ على الدولة ومؤسساتها من الاختطاف أو العودة إلى نقطة الصفر ومربع الأزمات من خلال اختيار واعٍ أمام صناديق الاقتراع لكي تستكمل تونس مراحل تعافيها، وتستطيع الخروج من عنق الزجاجة التي ازدادت ضيقاً بعد رحيل الباجي، فليس منطقياً أن دولة مثل تونس تمثل نموذجاً للرقي والحضارة والانفتاح على الآخر، وقبلة سياحية للعالم أن تقع بين عشية وضحاها رهينة لحكم حركة أو جماعة إرهابية ظلامية تكفيرية ترسم ملامح رجعية لا تتسق ولا تتفق مع نبل وحضارة الشعب التونسي. المشهد يزداد تعقيداً، لكن الكرة الآن في ملعب الشعب إما العبور بمستقبل الدولة، وإما الدخول في نفق مظلم ربما يصعب الخروج منه مرة ثانية.

* رئيس تحرير مجلة الأهرام العربي