كلنا يعرف ليلى التي جُن بها قيس بن الملوح، وقال فيها: ليلى في العراق مريضة / يا ليتني كنت الطبيب المداويا. مؤخراً عرفت قصة «ميحانة» التي ورد اسمها في أغنية ناظم الغزالي الشهيرة، تلك الأغنية التي يزيد عمرها على ستين سنة أو أكثر وسمعناها وحفظناها، فمن هي «ميحانة»؟
تقول القصة إن شاباً عراقياً من مدينة «المسيّب» التي يشطرها نهر الفرات نصفين بين مدن بغداد وكربلاء والحلة كان يملك قارباً صغيراً يجوب به نهر الفرات يتنقل وينقل فيه الطيور، والحبوب وغيرها.
اعتاد هذا الشاب بصوته الجميل الغناء أثناء تنقله بقاربه، فكان الناس يقفون على شاطئ النهر مستمعين لصوته الأخّاذ، فنشأت قصة حب شديدة بين الشاب وفتاة ريفية اعتادت نقل الماء من ضفاف النهر إلى منزلها.
لم يكن يعلم بقصة حبهما سوى صديقتها «ميحانة» التي كانت تشجعها على الإفصاح عن حبها له رغم أنها تعي جيداً أن هذا الشاب كان يبادلها الحب، لكنها تخشى أن يعلم الناس بقصتها.
بعد مرور مدة من الزمن حدثت حادثة أودت بحياة هذا الشاب، فحزنت محبوبته عليه حزنا شديداً. وفي أحد الأيام كانت تلك الفتاة جالسة على ضفة الشاطئ تغسل الأواني قرب جسر المسيب التاريخي، فمر القارب الذي اعتاد محبوبها ركوبه، مروراً صامتا خالياً من حبيبها ومن صوته الجميل، فأحزنها وهيج عليها الذكريات، فالتفتت إلى صديقتها «ميحانة» وكانت الشمس توشك على الغروب وأنشدت منادية صديقتها:
ميحانه ميحانه / غابت شمسنا الحلو ما جانا / حياك.. حياك بابا حياك /ألف رحمه على بَيّك / هذول العذبوني / هذول المرمروني / وعلى جسر المسيب سيبوني/.
لكأن قدر هذا العراق ألا يستقر، ألا تنام بغداد جلجامش وحمورابي والعباسيين هانئة، لكأنه لم ينجب سيبويه والخليل بن أحمد والرازي وابن الهيثم والكندي والفارابي وغيرهم الذين أناروا الغرب القروسطي المظلم بنور العلم.
تاريخياً، كان ولم يزل العراق هدفاً للطامعين تارة، وللخائفين من حضارته وتقدمه وقوته تارة أخرى.
بعد الاحتلال العام 2003 وغداة وصوله إلى بغداد في 12 مايو بأيام قليلة أصدر «الحاكم» الأمريكي بريمر قراراً بحل الجيش العراقي وجميع المؤسسات ذات الصلة بالأمن الوطني وكل التشكيلات العسكرية، وأنهيت خدمات جميع المنتسبين إلى الجيش، وأعلن إنشاء جيش عراقي جديد من الجيش القديم والميليشيات الطائفية والعرقية التي لها ثأر مع النظام القديم.
يقول بريمر في كتابه «عام قضيته في العراق»: «إن الإدارة الأمريكية كانت تأمل أن يساعد القبض على صدام حسين «في إقناع السنة المعتدلين بالاندماج في العملية السياسية وترسيخ قناعة نهاية البعث لديهم ولدى غيرهم أيضاً، وكنا نتوقع أن يساعد أيضاً في لجم عمليات اجتثاث البعث التي كان يتولاها الجلبي، وكانت تجري بتطرف يفوق توقعات الأمريكيين».
وفي حوار أجرته معه صحيفة «ذي إندبندنت» البريطانية، اعترف بريمر بـ«أخطاء استراتيجية كبيرة» ارتُكِبت في العراق، ما أدى إلى تقويض جهوده لاحتواء المسلحين العراقيين، وأودى بأرواح الكثير منهم إلى جانب قوات التحالف، وقال إن «عقلية ما بعد فيتنام التي كانت سائدة بين جنرالات الجيش الأمريكي، أدت إلى حرب غير فعّالة مع المسلحين، فبمجرد أن تقضي على العدو في مكان ما، حتى يظهر بغتة في مكان آخر».
يكذب بريمر، فلم يكن هدف احتلال العراق تدمير ما سماه بوش «أسلحة الدمار الشامل» بل تدمير العراق الشامخ. ترسيخ الطائفية وتقسيم الشعب العراقي إلى فتات وفئات تتحكم فيهم فئة واحدة فاسدة مستفيدة تكمل ما بدأه الاحتلال. ولو كان الهدف إزاحة نظام لكان يكفي بضع دبابات وبيان رقم واحد.. أليس العراق بلد الانقلابات؟!
لقد وعد بوش الابن العراقيين بالازدهار والتقدم، وها نحن بعد ست عشرة سنة نرى العراقيين يتظاهرون ضد الفساد والقهر والجوع ويقتلون بالعشرات بسبب ما خلفه الاحتلال وما تبعه من احتلالات وفقدان للسيادة وللكرامة.