الانتفاضات لكي تنجح

عندما ظهرت الآلة البسيطة انقسمت المجتمعات البشرية طبقياً في المرحلة الأولى إلى أسياد وعبيد، وحين وصل الاضطهاد ذروته فجّر العبيد ثورة بقيادة سبارتاكوس. كان لتلك الثورة عنوان واضح وقائد معلن يحمل أفكاراً لم تكن تسمى حينها برنامجاً بديلاً، لكنها كانت كذلك.

بدءاً بتلك الثورة، لم تعرف البشرية ثورات أو انتفاضات بلا قيادة وبرامج بديلة تلامس هموم الناس وأوجاعهم ومتطلباتهم المعيشية، المادية والمعنوية، فيقررون على ضوئها أن يلتفوا حول هذه القيادة ووسائلها وأهدافها، أو لا تروق لهم فينفضون عنها.

لا يتّسع المجال هنا لاستعراض الأمثلة عبر التاريخ، لكنها كلّها تحركت بدفع رباعي، القيادة والبرنامج البديل والوسائل النضالية والمشاركين. استمرت هذه الرباعية حتى ظهور ما عرفت بالثورات الملوّنة في أوروبا الشرقية، رغم أن بعضها شهد ظهور قيادات كانت في الظل وخرجت لحظة القطاف.

الثورات، الانتفاضات، الحراكات الشعبية، حتى تنجح ينبغي أن تكون لها قيادة وبرنامج بديل، وإلا تكون كمن يمشي في الليل بلا دليل، فضلاً عن الركوب الحتمي لها من جانب قوى محضّرة وأصابع خفيّة تنتظر الفرص لالتقاطها وركوب الموجة، وفي معظم الأحيان تكون هذه الأصابع بعيدة عن الاكتواء بالأسباب الموجبة للثورة أو الانتفاضة.

نجاح الثورات لا يتطلّب مشاركة شعبية كاملة، إنما مشاركة فاعلة ووازنة وواعية ومنظّمة ولها قيادة تنسّق فعلها وتستنبط التكتيك والاستراتيجية في العملية النضالية، كي تستطيع أن تحوّل القوة إلى فعل مجدٍ ومن ثم إلى نتائج وأهداف تلبي مصالح الشعوب. الفعل الشعبي بلا قيادة يشبه جيشاً بلا هيئة أركان وقائد لهذه الهيئة، ومن نافل القول إن جيشاً كهذا جيش حتى لو كان بالملايين، لن يكون مهيئاً لخوض أية معركة، لأنه سيكون مشتّتاً وبلا وجهة وبلا توزيع منسّق للأدوار على الجبهة أو الجبهات.

الحراك الشعبي ليس حالة ترف، وليس هدفاً بحد ذاته، إنما هو وسيلة للتغيير نحو الأفضل. الحراك لا ينبغي أن يكون عدمياً (كل شيء أو لا شيء)، بل ينبغي على قيادته أن تكون قادرة على تقييم موازين القوى بين العمل الثوري وفعل الشارع من جهة، والسلطة السياسية المستهدفة، من جهة أخرى. ومن نافل القول إن الطائفية شيء والطوائف شيء آخر. وهنا لا أحد يطالب ولا يستطيع أن يلغي الطوائف بحد ذاتها، إنما المطلوب إلغاء الطائفية السياسية التي تفرّق وتمزق النسيج المجتمعي والاجتماعي، وأن تعاد صياغة الدستور على هذا الأساس كي يكون معبّراً عن الشعب وليس عن الطوائف.

ما تقدم ليس سوى عناوين جعلت من السياسة علوماً تسمى «العلوم السياسية»، وجعلت السياسة تسمى «فن إدارة الصراع»، وقبل كل ذلك «التعبير المكثّف عن الاقتصاد».

تجاهل هذين المحركّين، العلم والفن، كفيل بأن يجهض أشد الانتفاضات نقاء، لأنه يقود إلى حالة تشبه «قطع الشجرة للحصول على الثمرة».

الأكثر مشاركة