في الوقت الذي واكبت فيه وسائل الإعلام والمهتمون الإعلان الأخير لرؤية دبي الثقافية التي باركها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي (رعاه الله)، كان في حقيقة الأمر ما يشغلنا جميعاً في هيئة الثقافة والفنون في دبي هو التسريع في وضع الآليات التنفيذية التي من شأنها تحويل مجموع المبادرات المهمة التي لخّصها الإعلان إلى واقع ملموس من شأنه تحقيق القفزة النوعية المرجوة في جعل دبي حاضرة ثقافية عالمية أسوةً بموقعها الريادي في مجالات الاقتصاد والأعمال.

وفي جردة سريعة لواقع البنى التحتية ورأس المال البشري في دبي، نجد أن حجم تلك المبادرات ليس بغريب عن مدينتنا التي غيّرت دون شكّ مفهوم «النهضة التقليدية» على المستوى العالمي، وباتت تحتل مراكز الصدارة في مجالات التنمية والحوكمة الذكية والخدمات والمال والأعمال والسياحة. والجدير بالذكر في هذا السياق أن تقرير جاذبية المدن الصادر عن فيوتشر براند إندكس في 25 يونيو 2019 كان قد أدرج دبي على قائمته لتحتل المركز الأول عربياً والحادي عشر عالمياً في مجال أكثر المدن تأثيراً على المستوى العالمي بناءً على مستوى الأمان والمعيشة والبنى التحتية والثقافة.

ما الدلالات؟ وكيف لنا المضي في مشاريعنا في ضوء ما سبق؟

عقب صدور التقرير، وفي الوقت الذي كنا نعمل فيه مع فريق الهيئة على إعداد التصوّر الجديد لمستقبل الثقافة في دبي بعد تكليفنا بمهام رئاساتها في 5 سبتمبر 2019، عملنا على مسح آراء 100 من العاملين في الحقل الإبداعي و200 مهتم بمجالات الثقافة والفنون ممن يقيمون ويعملون في دولة الإمارات العربية المتحدة، لاستبيانهم حول عدد من المحاور التي تصنف عالمياً ركائز في عملية بناء المجتمعات الإبداعية، وترسيخ مكانة أي مدينة على خارطة الفعل الثقافي، لتخلص الدراسة إلى مجموعة من البيانات المرجعية، وأهمها:

95 % من المشاركين في الاستبيان اعتبروا أن المشهد الإبداعي في دبي يحتل مركز الصدارة خليجياً، وعند سؤالهم بالتحديد عمّا يميّز دبي عن غيرها من وجهة نظرهم: تراوحت إجاباتهم بين 95% للثقافة والفنون، 90% للابتكار، و89% للإبداع (قطاع الصناعات الإبداعية متضمناً العمارة والتصميم والفنون الأدائية والسينما). وعند سؤال المعماريين والمصممين عن مدى تطور النظام الحيوي في قطاع الصناعات الإبداعية في دبي (مزيج البنى التحتية وفرص العمل والتمويل وترويج المنتج الإبداعي)، اعتبر 100% و77% منهم على التوالي أنه أكثر تطوراً مقارنة ببلدانهم الأم. وعند سؤال المستهلكين عن مدى تفاعلهم مع الفعاليات والنشاطات الإبداعية في دبي خلص 90% منهم إلى أنهم يتفاعلون بشكل جيّد إلى كبير مع تلك الأنشطة، وانقسمت إجاباتهم بين 47% لقطاع العمارة و45% لقطاع التصميم و44% لقطاع المتاحف.

إن الدلالات الإيجابية لهذه الأرقام بالتزامن مع صدور الرؤية الثقافية الجديدة لمدينة دبي تعيد طرح الأسئلة الأكثر إلحاحاً عند العاملين في الحقل الثقافي، وعند الجمهور الذي ينتظر ثمار هذه المبادرات الحيوية، لتضعنا أمام تحدٍ دائم التجدد جوهره امتياز دبي في مقاربتها للمستقبل وقدرتها اللامتناهية على اجتراح الأمل. وهنا، إن صحّ القول، ومع الشروع بتنفيذ العديد من تلك المشاريع، تغدو عملية المراجعة المستمرة والتقييم الدائم لمخرجات كل خطوة في هذا الإطار أمراً حتمياً في استجابة مباشرة لرسالة الموسم الجديد من صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، والتي باتت منذ لحظة إصدارها مرجعاً لنا في العمل الحكومي.

بالعودة إلى أبرز المشاريع التي تمّ الإعلان عنها، لا بدّ من تحديد الأولويات ووضعها في سياقها الظرفي والاستراتيجي بما يلبي الاحتياجات المتنامية لكل من المتخصصين في القطاع ولجمهور الثقافة والفنون من مقيمين وزوّار. ومن هنا تبرز ضرورة الشراكات، الأمر الذي أعيد التشديد على محوريته في عملنا، فالثقافة فعلٌ جمعيّ تتضافر فيه جهود المؤسسات المعنية مع المجتمعات المحلية والجهات الراعية نحو خلق هوية استثنائية لمنتج ثقافي لا يسهم بالنهوض بكينونة الفرد والمجتمع ككل فقط، بل يتعداه ليصبح فعلاً إبداعياً بحد ذاته يحفّز كل واحدٍ فينا للتفكير بطريقة إبداعية، فيغدو الإبداع ثقافة حياة ومحركاً للنهوض بالفرد والمجتمع.

من منطقة القوز الإبداعية إلى موسم الآداب العالمي، مروراً بهوية دبي المعمارية ومعرض الخريجين العالمي، وصولاً إلى أبرز تحديات عصرنا الراهن بالنسبة للمبدعين ألا وهي حرية الحركة والتنقل في عالم تسوده الاضطرابات والتي تحاول رؤيتنا أن تخاطبها مع إقرار التأشيرة الثقافية، تختصر دبي كعادتها طموحات وأحلام الملايين في هذا العالم، وتطرح تزامناً مع إكسبو 2020، أبرز تظاهرة إنسانية ومعرفية وتقنية على الأجندة الدولية في العام المقبل، حزمة من المشاريع التنموية في تطوّر طبيعي لإرثنا الثقافي الذي اتّسم منذ عهوده الأولى بالانفتاح على الآخر، فبات الأخير شريكاً في بناء هذه النهضة وجزءاً لا يتجزأ من مفهومنا للبنيان الحضاري.

أن تأتي هذه الرؤية في عام التسامح ومع إنجازنا الكبير كشعب ودولة في رفع علم الإمارات من محطة الفضاء الدولية، لهي حافز إضافي لنا جميعاً في هيئة دبي للثقافة والفنون نحو المزيد من العمل، لتبقى صناعة الأمل والمستقبل حرفتنا.