في الطريق إلى مؤتمر برلين حول الأزمة الليبية الذي يبدأ أعماله اليوم، كان العبور بمحطة محادثات موسكو التي انتهت بالفشل حدثاً مهماً أزاح الكثير من الغموض عن مواقف الأطراف التي شاركت في المحادثات، وجعل أطرافاً أخرى أساسية لم تكن في موسكو وإن كانت في قلب القضية الليبية تحدد مواقفها من الصراع الدائر على أرض ليبيا بصورة قد تجنب مؤتمر برلين مشكلة إضاعة القضايا الأساسية في ضبابية المواقف، أو الرهان على الوقت، أو انتظار استثمار أخطاء الآخرين!
في الفترة الأخيرة اتخذت موسكو مواقف إيجابية أكسبتها المزيد من القدرة على أن تكون طرفاً فاعلاً هناك، لكن المشكلة أن تحركاً رسمياً من خلال مباحثات موسكو يكشف عن محاولة تكرار تجربتها في سوريا، رغم اختلاف الظروف بما لا يسمح بهذا الاستنساخ.
ومن هنا يجيء التلاقي مع تركيا لتكون شريك صفقة مقترحة في ليبيا، كما كانت شريك صفقة ما زالت تعاني على الأرض في سوريا، هذه الشراكة التي انعكست في رعاية مباحثات موسكو حملت معها أسباب فشلها. فتركيا أردوغان لا يمكن أن تكون وسيطاً في ليبيا بل هي طرف في الصراع لا يكتفي بالدعم السياسي أو حتى بإمدادات السلاح، ولكنه يعلن - من خلال الاتفاقيات الباطلة مع حكومة السراج - عن إرسال جنوده لإنقاذ حكم الميليشيات الإخوانية لطرابلس، وتبني علانية إرسال الإرهابيين من سوريا لدعم الإخوان وتأجيل سقوط السراج.. والأدهى من ذلك أن يتم ذلك في ظل تأكيد أردوغان على أن ليبيا هي إرث الجدود العثمانيين وأنه قادم لاستعادته!
ومن هنا كان طبيعياً أن تكون المقترحات المعروضة في مباحثات موسكو هي مشروع إنقاذ لميليشيات الإخوان وسيطرتهم على طرابلس من خلال حكومة السراج.
ومن هنا كان من المستحيل أن تنجح مثل هذه المحادثات التي تطلب من الجيش الوطني أن يعود لمواقعه قبل أبريل وأن يترك العاصمة في قبضة ميليشيات الإخوان مع سلاحها، وأن يمنح شرعية التواجد لجنود الغزو التركي والمرتزقة الذين يرسلهم، وأن يجعل من جنود الغزو مراقبين «محايدين!» لوقف إطلاق النار.
صدمة الفشل جعلت أردوغان يعود لترديد تهديداته بإرسال الجيش التركي وفلول الإرهاب المهزومين في سوريا لمنع تحرير العاصمة الليبية طرابلس على يد الجيش الوطني الليبي من عصابات الإرهاب الإخواني، كما جعلت الصدمة أردوغان يثرثر مهدداً أوروبا بأنه «صاحب البحر المتوسط» الذي يتحكم في ثرواته ويعطي التصاريح حتى لأصحاب الحق إذا أرادوا استغلال ثروات بلادهم وبحارها!
الضجيج الذي يثيره أردوغان مفهوم في ضوء أنه يريد أن يقول إنه طرف أساسي في قضية ليبيا، حتى وإن كانت علاقاته بها هي فقط رعاية الإرهاب ومحاولة نهب الثروات أو الغزو غير المشروع، وهو يدرك الآن أنه سيكون محاصراً في مؤتمر برلين، وأن كل ما يفعله لا ينتج إلا التأكيد على حقيقة أنه ليس شريكاً في الحل بل جزء من المشكلة.
الجهد الأكبر في الإعداد لمؤتمر برلين، والحشد العالمي له يعكسان - بلا شك - مدى الإحساس بخطر الأوضاع في ليبيا وانعكاسها على المنطقة والعالم، وإذا كانت الحماقات التركية قد زادت هذه المخاطر، فإن فشل محادثات موسكو بسبب الرهان الروسي الخاطئ على شراكة تركية يضع أمام مؤتمر برلين بوضوح المبادئ الحاكمة للحل المطلوب التوافق عليه في ليبيا.
المحادثات في برلين قد تكون بحثاً عن «الحد الأدنى من التوافق الدولي»، كما يأمل المبعوث الأممي غسان سلامة، وقد يكون آفاقها أوسع بكثير إذا استوعب الجميع الدرس، وانطلقوا مما حققه شعب ليبيا وجيشها الوطني من إنجازات على الأرض في أصعب الظروف، ومما أثبتته مباحثات موسكو من أنه لا حل في ليبيا قبل القضاء على الميليشيات الإرهابية وإنهاء سيطرتها على العاصمة طرابلس، وأنه لا حل إلا إذا كان حلاً شاملاً لا يكرر أخطاء الماضي بحلول جزئية تعطي الفرصة للإخوان المهزومين لأن ينظموا ميليشياتهم.
الفرصة متاحة أمام مؤتمر برلين إذا انطلق من أن الحل الشامل هو الأساس، وأن الوقف المؤقت لإطلاق النار سينجح إذا كان باباً لإنهاء الميليشيات وليس لإنقاذها. وإذا دعم الجيش الوطني لاستكمال مهمته وإذا تجاوز مرحلة اتفاق الصخيرات بنتائجها البائسة، إلى الحل الذي لا يساوي بين الجيش الوطني والميليشيات، ولا بين شعب ليبيا المناضل من أجل استعادة دولته.. وبين «حكومة» تقول إنها شرعية وهي تسلم ليبيا للميليشيات الإخوانية!