خلال الفترة من 5 – 8 يناير الحالي كنت برفقة مجموعة من الأصدقاء في زيارة إلى سلطنة عُمان، لم تكن زيارتنا الأولى، فقد سبقتها زيارات عديدة.
فقد تكون شبه سنوية، ولكن أغلبها في الفترة الأخيرة إلى ساحل الباطنة وفلج القبائل. وأما مسقط العاصمة فكانت زيارتي الأخيرة لها منذ فترة ليست بالقصيرة، ولكن هذه الزيارة كانت مهمة جداً.
حيث بدت لنا هذه العاصمة المتطورة خير شاهد على الجهود التي بذلت لتطوير هذا البلد الأنموذج، الذي يجمع الأصالة والحداثة، والتراث الحضاري.
والتمسك بالقيم وإيجابيات الماضي ومتطلبات الحاضر. إنها الترجمة الحقيقية للتغير الحضاري الذي طرأ على عُمان في عهد المغفور له بإذن الله السلطان قابوس الذي رحل إلى جوار ربه مخلفاً وراءه بلداً حافظ على قيمه وتقاليده، لم تغيره العصرنة، بلداً تسلّم زمام الأمور فيه، وهو يعاني أموراً سلبيةً كثيرةً.
ووضعاً اقتصادياً متردياً، ووضعاً سياسياً مضطرباً في الجنوب (جبهة تحرير ظفار) فاستطاع بحكمته أن يأخذ البلاد إلى الهدوء، وتحويل التحديات إلى إيجابيات وعوامل بناء وعطاء.
السلطان قابوس حوّل المنتسبين إلى جبهة تحرير ظفار – المعارضين للحكومة المركزية – ليكونوا أدوات البناء، من مبدأ إذا كانت المعارضة من أجل التغيير الإيجابي، فهلموا وانخرطوا في العمل وحققوا مطالبكم وتطلعاتكم من خلال خدمة وطنكم، فكانت المصالحة الوطنية، حتى استطاع بهم وبجهود المخلصين من أبناء عُمان بناء دولة عصرية متميزة.
عُمان التي تمثل ثاني أكبر مساحة بين دول مجلس التعاون، لم يكن اقتصادها منافساً أو مساوياً لبعض دول المجلس.
ولكن الاستقرار والعمل من أجل الوطن أبعد عن عُمان شبح الحاجة، وبحكمة السلطان قابوس وبصيرته الثاقبة، وبالثروة الحقيقية المتمثلة في شعب عُمان الرائع والمخلص حققت عُمان تنمية ملحوظة، وبعزيمة الرجال تم البناء تجاوزاً لقلة الموارد المالية.
ولقد كان لانشغال السلطان قابوس عليه رحمة الله بالشأن الداخلي والنأي بالبلاد عن الانخراط في معسكرات سياسية متنافرة، أن جعل من عُمان بلداً مترجماً لمبدأي الحياد الإيجابي وعدم الانحياز، والابتعاد عن المهاترات والتدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى ما أكسبها احترام الدول الكبرى والصغرى وارتباطها بالعالم بعلاقات إيجابية على المستوى الإقليمي والعالمي.
وركزت القيادة بفضل التوجيهات السامية للسلطان على العمل الداخلي، وبناء وطن يحب أبناءه فاهتمت بالبنية التحتية التي تكاد تكون مكتملة: المواصلات، الطرق، الكهرباء، المياه، الإسكان، وغير ذلك من مستلزمات الحياة الكريمة.
وكانت سياسة «التعمين» التي طبقت بشأن الوظائف التي انخرط فيها الشباب العُمانيون في مستويات مختلفة دونما أنفة أو استكبار، ليس هناك من ينافسهم فيها، هي التي أكسبت عُمان الحب المتبادل بين القيادة والشعب.
وتشاء قدرة الله أن يرحل السلطان قابوس إلى جوار ربه كما هي سنة الله في خلقه، وتتجلى حكمة قابوس وهو يودع بلده وشعبه في هذه المرحلة بأن يوصي بأن يتولى الأمر من بعده السلطان هيثم بن طارق، سلطاناً جديداً لعُمان.
وقد أحسن الاختيار، فالسلطان الجديد له من المزايا والقدرات ما يؤهله لتحمل هذه المسؤولية، ويبشر باستمرار الخير لعُمان.
إنه شخص بشوش مع الناس لا تفارق الابتسامة شفتيه، يرحب بمن يراه، ومن يلتقيه لا يملك إلا أن يحبه ويحترمه، لذا فإن له علاقات متميزة على جميع المستويات، ولقد بدأ حياته العملية بالعمل العسكري حيث الضبط والربط والتنظيم.
فاكتسب الثقافة العسكرية. وعمل رئيساً لاتحاد كرة القدم العُماني، فارتبط بقطاع الشباب وعالم الرياضة وتعرف على متطلبات الشباب وتطلعاتهم، وكانت له العلاقات الرياضية مع هذا القطاع المهم داخل السلطنة وخارجها.
ولما انتقل إلى وزارة الخارجية العُمانية في مواقع متعددة وأهمها أمين عام الوزارة، كان قريباً من صنع القرار السياسي، وخبر سياسة وطنه على المستوى الخارجي الإقليمي والدولي، وارتبط بعلاقات وثيقة مع القادة السياسيين وأتقن متطلبات الدبلوماسية العُمانية، لينتقل بعدها وزيراً للثقافة والتراث.
وهذا عالم مهم في مجال العلاقات الإنسانية، فالثقافة هي القاطرة الحقيقية للتنمية، وتمتع بقدر كافٍ من الإلمام بثقافة مجتمعه وتاريخ الفكر الإنساني، واطلع على تراث أمته وبلده، وأسهم في إبراز هذا التراث العُماني الغني.
ويمتاز السلطان هيثم بالهدوء وعدم الانفعال. وعدم الرغبة في كثرة الكلام، ولقد لاحظت مواقفه هذه في اجتماعات وزراء الثقافة حيث إنه قليل الكلام.
وإذا تحدث كان القول الفصل في اختصار، ولما كان بعض وزراء الثقافة يستمتعون بكثرة الكلام خلال خطبهم في الاجتماعات فقد ضرب خير مثال عندما كان يترأس اجتماعات وزراء الثقافة العرب.
في دورة من الدورات التي عقدت في مسقط عندما طلب من الحضور تأجيل كلماتهم إلى ما بعد الانتهاء من جدول الأعمال، ليتفرغ الجميع لمناقشة القضايا المطروحة على جدول الأعمال، وقد أيده الحضور جميعاً فكان اجتماعاً من أنجح الاجتماعات العربية.
هذه الشخصية قادرة على السير بعُمان في طريق يحقق لها استمرار التطور والنمو، ولقد أشار السلطان إلى ذلك في التصريحات التي تلت تأدية القسم بأنه سيمضي على نهج سلفه محافظاً على عُمان المستقلة في قرارها والمحافظة على منجزاتها وحرية أفرادها.
رحم الله السلطان قابوس وغفر له، وأيّد السلطان هيثم وأعانه على القيام بتبعات الحكم، فعُمان تستحق كل الخير.
*رئيس مجلس إدارة ندوة الثقافة والعلوم في دبي