ربما كان الفارق بين التجربة المصرية وتجارب أخرى في دول عربية شقيقة خلال السنوات الماضية، هو أن الدولة في مصر لم تسقط حين سرقت جماعة الإخوان الثورة واستولت على الحكم، ومن هنا كان تحرك الشعب بمختلف أطيافه وانحياز الجيش الوطني لإرادة الملايين التي خرجت في 30 يونيو لتسقط حكم الفاشية الإخوانية، وكانت الوحدة الوطنية هي السلاح الأساسي الذي حافظ على مصر، الكثير مما يجري على الساحة العربية يؤكد هذا اليقين بأن الحفاظ على الدولة الوطنية هو صمام الأمان وأساس الاستقرار.
كانت التجربة المؤلمة في العراق الشقيق منذ بدايات القرن الحالي نذيراً لم يستوعبه الكثيرون. الغزو الأجنبي تعمد أن يفكك مؤسسات الدولة كلها وأن يتركها في فراغ، وأن يقيم نظاماً طائفياً فتح الباب للنفوذ الإيراني، وترك الأوضاع في قبضة ميليشيات متصارعة، وأهدر موارد الدولة بصورة أوصلت البلاد إلى هذه الأوضاع المتفجرة التي تعيشها اليوم.
وفي تجربة ليبيا كانت المهمة أسهل، ومؤسسات الدولة في النظام السابق أضعف أن تقاوم ضربات حلف «الناتو» الذي اكتفى بإسقاط النظام وترك البلاد في قبضة الفوضى والميليشيات، ولأطماع أطراف أجنبية تتصارع على ثروات ليبيا وتهدر كل إمكانات استعادة الاستقرار ولا تتورع - كما يفعل أردوغان - عن إرسال الإرهابيين لدعم عصابات الإخوان ومنع تحرير الجيش الوطني لعاصمة البلاد الواقعة تحت سيطرة حكم الميليشيات.
وفي كل النماذج الأخرى سوف تجد هذا التأكيد على أن سقوط الدولة الوطنية هو أساس الكارثة، وأن طريق النجاة يبدأ من استعادتها.
هكذا تم تدمير سوريا وحولوا اليمن إلى ساحة لصراعات ضربت وحدة اليمن واستقراره، لأن البعض جعل من نفسه أداة لقوى الخارج التي تريد أن يكون اليمن نقطة انطلاقها لضرب أمن الخليج العربي واستقراره.
وحتى لبنان الجميل يقف على شفا الانهيار بعد سنوات من حكم طائفي انتهى بإفلاس سياسي واقتصادي كامل، وكان لافتاً أن نرى الحراك نفسه في العراق، وإن كانت بصورة أعنف يرفض أن يظل العراق ساحة للصراع الأمريكي - الإيراني، كما يرفض أن يستمر حكم العراق في قبضة ميليشيات - بغطاء حزبي أو بغير غطاء - يدفع العراق باهظاً فواتير صراعاتها الطائفية وفسادها الذي يتجاوز كل الحدود.
ورغم قسوة المشهد في ساحات عربية عدة، وفداحة الثمن الذي دفعته دول شقيقة في السنوات الصعبة، إلا أننا نقف في لحظة حاسمة في تاريخنا يدرك فيها الجميع أن سقوط الدولة الوطنية كان مقدمة الكارثة، وأن استعادتها والحفاظ عليها هو أساس الاستقرار وبداية التعافي، وتدرك فيها الدول العربية الأساسية أن الدولة الوطنية القوية هي صمام الأمان، وأن ما حدث من تهاون في مراحل سابقة لا يمكن أن يستمر بعد أن أثبتت السنوات الصعبة أن أعداءها يخططون للمنطقة العربية مدركين أن أمنها القومي مترابط، وأننا الأجدر بأن نعي ذلك، وأن نبذل كل جهد حتى لا تسقط دولة عربية في الفوضى التي لا يستفيد منها إلا عصابات الإرهاب وقوى التخلف والطامعون في بناء إمبراطوريات مذهبية أو استعادة عثمانية بائدة!!
رغم كل الظروف الصعبة يخرج أهلنا في العراق ولبنان وهم يعبرون الطائفية، ويرفضون النفوذ الأجنبي، ويدينون أن يكون بينهم من يدين بالولاء لغير الوطن، ويسحبون الثقة من كل الطبقة السياسية التي كانت سبباً فيما وصلت إليه الأوضاع.
وفي الاتجاه نفسه نحو استعادة الدولة، يتوحد شعب ليبيا وراء جيشه الوطني وهو يستكمل حربه ضد الميليشيات التي تسيطر على العاصمة، ويواجه التركي أردوغان وهو يتدخل بقواته العسكرية وبالإرهابيين الذين أنهوا مهمتهم القذرة في تدمير سوريا، ويذهبون الآن في محاولة يائسة لمنع استعادة ليبيا للدولة بكل مؤسساتها وعاصمتها وقرارها المستقل.
وعلى الطريق نفسه أيضاً أصبح واضحاً للجميع أن استعادة الدولة الوطنية لكامل فاعليتها وسيطرتها على كل أراضيها هو مفتاح إنهاء الأزمة في سوريا. وعلى الطريق نفسه كان الإيمان بأن الوقوف مع شعب اليمن ضد تحويله لقاعدة للنفوذ الأجنبي أو الصراع الطائفي هو واجب قومي، وهو أيضاً ضرورة أمن واستقرار للخليج العربي وللمنطقة كلها.
الآن.. لم يعد مكان في العالم العربي لمن قالوا متباهين إن الوطن حفنة من تراب عفن (!!) ولا للذين أرادوا الأرض العربية ساحة ترتفع في عواصمها راياتهم الفارسية، أو اعتبارها من إرث الجدود العثمانيين (!!)
يكفي سماع أصوات الملايين في ميادين العراق ولبنان، وهي تلغي من قاموسها ما يتعلق بالطائفية والعمالة للخارج، وترفض حكم الميليشيات والفاسدين، يكفي أن نسمع هدير أصوات الملايين وهي تطلب أن تستعيد معنى الوطن وقيمة الدولة الوطنية.. لكي تدرك أن ما قدمناه في الزمن الصعب من أثمان فادحة لا يمكن أن يضيع هدراً.