في انتظار الكشف عن التفاصيل، يبدو من البيانات الرسمية المعلنة أن التفاؤل كبير بنتائج مباحثات الجولة الأخيرة في واشنطن حول سد النهضة، وأننا بصدد التوقيع النهائي على الاتفاق بنهاية فبراير الحالي بعد أن تتولى واشنطن مع البنك الدولي صياغة بنود الاتفاق ثم عرضه على وزراء الدول الثلاث (مصر والسودان وإثيوبيا)، وعلى رؤساء هذه الدول لإقراره بصورة نهائية.

البيانات الرسمية حتى الآن تقول إن التفاوض قد تم على كل النقاط التي كانت موضع اختلاف.

سواء فيما يتعلق بكيفية ملء وتشغيل السد، أو التعامل في حالات الجفاف والسنوات الشحيحة التي قد تتزامن مع عملية ملء السد، أو على قواعد التشغيل طويل الأمد، أو آلية التنسيق بين الدول الثلاث التي تتابع تنفيذ ما تم الاتفاق عليه والتعامل مع حالات الطوارئ.

فضلاً عن آلية ملزمة لفض أي نزاعات قد تنشأ حول تفسير أو تطبيق هذا الاتفاق.

هذا يعني أنه كانت - في هذه المرحلة الحاسمة من التفاوض - جدية في التعامل مع كل جوانب الأزمة، وهو ما كانت مصر تصر عليه حتى نكون أمام اتفاق شامل يحقق مصالح كل الأطراف، ولا يترك مجالاً لتجدد الأزمة مع كل تطور في الظروف الطبيعية أو تغير في السياسات أو الظروف الداخلية في الدول الثلاث أطراف الأزمة والاتفاق.

ولا شك أن الوصول إلى اتفاق منصف للأطراف الثلاثة سيكون إنجازاً هائلاً بعد سنوات من انعدام الثقة، خاصة وبعد أن بدأت إثيوبياً في بناء السد دون اتفاق، وشرعت في مضاعفة سعة الخزان مرات عدة في الظروف التي مرت بها مصر بعد ثورة يناير، ومع كارثة استيلاء الإخوان على الحكم وما قدموه من أداء كارثي في هذا الملف، ثم مع ضياع وقت ثمين بعد التوافق على إعلان المبادئ بين الدول الثلاث قبل خمس سنوات.

حقوق مصر والسودان في مياه النيل لا يمكن على الإطلاق أن تكون عقبة أمام إثيوبيا في التنمية.

بل العكس هو الصحيح إذ حسنت النوايا وتعمق التعاون المشترك لاستغلال مياه النيل الأزرق لمصلحة شعوب الدول الثلاث، ولتحقيق أقصى استفادة من مياه النيل، ومد جسور الشراكة بين الدول الثلاث التي تملك أن تحقق معاً أضعاف ما تستطيعه كل دولة بمفردها.

ورغم كل العقبات التي واجهتها عملية التفاوض، فقد كان لا بد من لحظة يدرك فيها الجميع أن محاولات التسويف لن تجدي، وأن الاحتكام لمبادئ القانون الدولي واحترام كل طرف لحقوق الأطراف الأخرى هو الطريق الصحيح، وأن الأطراف التي تشعل الخلاف لا تريد الخير لأي من الدول الثلاث الشركاء على مدى التاريخ، والشركاء أيضاً في صنع مستقبلهم بالتوافق والتعاون المشترك.

الآن تصل عملية التفاوض الشاقة إلى مرحلتها الأخيرة، بعد أن شاركت في مرحلتها الأخيرة بفعالية كبيرة الإدارة الأمريكية ممثلة في وزارة الخزانة، ومعها البنك الدولي، وبعد انتقال الملف من الدائرة الضيقة للخبراء الفنيين وحدهم إلى التفاوض السياسي بمشاركة وزراء الخارجية.

الاتفاق ستصوغه الولايات المتحدة خلال أيام، وعندها سيتم الكشف عن التفاصيل الدقيقة لما تم الاتفاق عليه، وستكون الصياغة الأمريكية بمثابة مشروع اتفاق يكتسب الصفة الرسمية والإلزامية بعد توقيع الأطراف الثلاثة المنتظر في نهاية هذا الشهر.

ولا شك أن الاتفاق النهائي سيتضمن التوفيق بين مطالب كل الأطراف، وقد أبدت مصر كل المرونة في ذلك، وانطلق موقفها من حرص على حق إثيوبيا في التنمية، وحق مصر والسودان في الحياة، مع ضرورة مراعاة الحقوق التاريخية والقانونية والمعاهدات الدولية، وحقيقة أن نهر النيل يمثل 90% من موارد مصر المائية التي لا تفي الآن باحتياجاتها وتتطلب منها جهداً كبيراً لتعويض الفجوة المائية بعد أن دخلت في نطاق الدول الفقيرة مائياً.

التوصل لاتفاق يحقق مصالح الأطراف الثلاثة لن يكون فقط إنهاء للأزمة، بل سيكون فتحاً لصفحة جديدة من العلاقات بين الدول الثلاث، ويلفت النظر في بيان الخارجية المصرية أنه لم يقتصر فقط على الحديث عن علاقات «تعاون» مستقبلية، لكنه يتحدث عن علاقات «تكامل» يمكن أن يؤسس لها الاتفاق.

و«التكامل» هنا يعني الحديث عن آفاق أوسع لدول تملك الثروات الطبيعية والإمكانيات البشرية ما يؤهلها لأن تكون قوة اقتصادية تحقق قفزات هائلة في التنمية، وما يجعلها معاً أحد المفاتيح الأساسية للاستقرار في هذه المنطقة الحيوية المليئة بالفرص.وأيضاً بالتحديات.

نأمل أن نكون في نهاية هذا الشهر على موعد مع التوقيع النهائي على اتفاق يحقق مصالح الأطراف الثلاثة، ويتجاوز أزمة كادت تفجر الأوضاع في المنطقة، سوف يكون ذلك إعلاناً بانتصار الحكمة والتعقل، ودرساً في أن الأزمات الكبرى يمكن أن تجد الحل إذا التزمت بالقانون والشرعية الدولية، وإذا أدركت أن الحل الصحيح هو الذي يحقق مصالح كل الأطراف.

وما أحوج العالم كله لأن يتذكر ذلك، وأن يتمسك به!!