أحد «تجليات» الشطط الأردوغاني أن الرجل سار وراء أوهامه دون أن يحسب حساباً لحدود القوة التي تملكها بلاده، ولا حدود المصالح الوطنية التي ينبغي الحفاظ عليها، ولهذا سار على نهج الهروب من أزمة إلى أخرى، دون أن يدرك أنه عندما تبدأ رحلة السقوط فإن الأزمات تحاصرك في الوقت نفسه، لتقودك إلى المصير المحتوم!في الأيام الأخيرة كانت كل «الأوراق» التي ظن أنها ستكون عامل قوة له تنفجر في وجهه، وكان الرجل «مثل كل المأزومين» يطلق صيحات التهديد في كل اتجاه، وكانت ردود الأفعال تكشف عن ورطة حقيقية علينا أن نتابعها جيداً، لأن أخطر اللحظات عند من يسيرون عكس التاريخ هي لحظات ما قبل السقوط!!

بعد سلسلة من الضربات التي تلقاها أردوغان في سوريا، وقف يراقب آلاف الجنود وقوافل المدرعات التي يرسلها إلى سوريا، مؤكداً أن سقوط جندي تركي واحد «بعد العشرات الذين قتلوا أو أصيبوا» سيكون الرد عليه تدمير كل مواقع الجيش السوري الذي يقاتل لتحرير أرضه.

وفي اليوم التالي كانت مدفعيته تشارك مع العصابات الإرهابية في الهجوم على الجيش السوري، وكان الرد حاسماً تم فيه رد الهجوم مع إعلان رسمي بمقتل اثنين من الجنود الأتراك وإصابة آخرين.

مع الاكتفاء بترديد كلمات العزاء!

وفي الوقت نفسه كان أردوغان يواصل إرسال تعزيزاته لحكومة السراج والميليشيات الإخوانية في طرابلس، ويهلل لقرار انسحاب حكومة السراج من المباحثات العسكرية التي تجرى في جنيف، مؤكداً أنه ماضٍ في حربه ضد شعب ليبيا وجيشها الوطني حتى النهاية.. وفي اليوم الثاني كان مندوبو السراج يواصلون المباحثات في جنيف وكان حديث الانسحاب يتوارى، وكان المشير حفتر يعلن من موسكو أن وقف إطلاق النار مرتبط بانسحاب القوات التركية التي أرسلها أردوغان إلى ليبيا، وكذلك انسحاب كل المرتزقة والإرهابيين الذين جاءوا عبر تركيا لدعم ميليشيات الإخوان وتأجيل تحرير العاصمة طرابلس من قبضة الإرهاب.

وفي الوقت نفسه أيضاً كان أردوغان يلوّح بورقة صراع الغاز في المتوسط، ويعلن عن سفينة ثالثة للتنقيب في المياه الإقليمية التابعة لقبرص بالمخالفة للقوانين الدولية، وفي محاولة لاستمرار ابتزاز دول أوروبا في هذا الملف المهم بالنسبة لها.

وفي اليوم التالي كان أردوغان حدد عسكرياً قواته التي تحتل أجزاء من سوريا، وكان الرد هو التحرك المشترك من المستشارة الألمانية ميركل والرئيس الفرنسي ماكرون في مسعى للتهدئة وعرض الوساطة مع بوتين الذي كان حاسماً في الوقوف إلى جانب الدولة السورية ودعم حقها في استعادة السيادة على كل أراضي البلاد.

المشهد كله يؤكد المدى الذي ورط فيه أردوغان بلاده بحماقاته المتكررة، وتحالفاته مع الإرهاب الإخواني، وأوهامه التي تتصور قدرتها على إعادة إنتاج التاريخ واستعادة إمبراطورية الظلام العثمانية، ومد النفوذ على طول الأرض العربية التي يعتبرها المهووس العثماني من إرث الأجداد!

إنها النهاية الطبيعية للتصرف خارج العصر، وضد القانون، ودون حساب دقيق لموازين القوة ولقدرة الشعوب على الدفاع عن أوطانها ضد كل ما أصبح أردوغان يمثله من تحالف مع إرهاب يرفضه العالم، ومن تحويل تركيا من مشروع واعد لدولة حديثة إلى عنوان للبلطجة والابتزاز والجري وراء وهم التوسّع ومد النفوذ واستعادة زمن التخلف والمذابح العثمانية في ثوب جديد!

وكل الظروف تقول إن ما تحتاجه تركيا «لو كانت في ظل حكم رشيد» هو وقفة مع النفس لتدرك إلى أين قادتها سياسات أردوغان، ولتوقف المأساة التي يصنعها قبل أن تكتمل.. سوف يحاول أردوغان الاحتفاظ بأوراقه في ليبيا وفي المتوسط وفي مناطق أخرى قاده إليها التحالف الجنوني مع «الإخوان» لكنه الآن يدرك بالتأكيد أن مساحة المناورة التي كان يراهن عليها للعب بين القوى الكبرى المتصارعة لم تعد تقريباً موجودة، كل الأطراف فقدت الثقة فيه وكشفت خطورة دوره في حماية عصابات الإرهاب وفي التحالف مع «الإخوان»، أوروبا لن تسمح له بتهديد أمنها، وأمريكا قد تستخدمه لمناكفة روسيا أو حتى أوروبا لكنها تعرف أن علاقاتها بتركيا لن تسترد قوتها في وجوده، وروسيا التي بنى معها علاقة معقدة، دخل معها صراعاً مكشوفاً في سوريا سيبقى مفتوحاً على كل الاحتمالات.

الوضع في سوريا هو الأخطر، في ليبيا ومهما كانت حماقة أردوغان فجيشه لن يتورط في حرب مفتوحة يعرف نتيجتها الحتمية، وخطورته هناك هي في دعمه عصابات الإرهاب الإخواني، وفي محاولته لإطالة الصراع، ومنع سيطرة الجيش الوطني على العاصمة، وإبقاء خطر التقسيم قائماً.

فشل المغامرة الأردوغانية في سوريا سيتحقق وإن تأجل موعد الإعلان عنه والصدام بين مخطط أردوغان وبين تصميم الدولة السورية على تحرير أراضيها أمر مؤكد، أخطر ما في الأمر أن أردوغان يدرك أن الهزيمة هنا هي إعلان بسقوطه، ولهذا سيقاتل حتى النهاية لكي يتفادى الهزيمة التي يعرف أن شعب تركيا لن يغفرها له.

لابد من وقفة عربية إلى جانب شعب سوريا الشقيق لإنهاء مأساته، وللتصدي للغزو التركي والوجود الأجنبي غير المشروع على الأرض السورية، واجتثاث بقايا عصابات الإرهاب، والحفاظ على وحدة سوريا في وجه مخططات التقسيم.