ربما يرى الكثيرون أن معركة الرئاسة الأمريكية تفتقد - حتى الآن - إلى الحيوية، لكن الوقت ما زال مبكراً وأمامنا ثمانية شهور حاسمة، وأمامنا تطورات داخلية مهمة تؤكد- بلا شك- حالة الانقسام الحاد في المجتمع الأمريكي، وتؤكد أيضاً أن الحياة الحزبية داخل الدولة الأعظم تقف في مفترق طرق، وأن الانتخابات الرئاسية المقبلة قد تكون آخر المنافسات بين الحزبين «الديمقراطي والجمهوري» بصورتهما الراهنة!

طبيعة المجتمع الأمريكي فرضت أن يكون كل من الحزبين الكبيرين مظلة واسعة لأطياف من الجماعات والمصالح المتباينة، مع ميل للمحافظة في الحزب الجمهوري، وتوجه أكثر انفتاحاً وتقدمية في الحزب الديمقراطي، ومع تقارب في السياسة الخارجية لدولة تولت قيادة العالم منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، لتنحصر الخلافات بين الحزبين في القضايا الداخلية، ولتتقارب برامج الحزبين مع جنوحهما معاً نحو دائرة الوسط.

مع نهاية القرن الماضي ونهاية الحرب الباردة ونشوة الانتصار الكبير على الاتحاد السوفييتي، وبينما كانت أمريكا حائرة بين من يتوهمون أنها «نهاية التاريخ» والانتصار الذي يكرس القرن الحادي والعشرين لزعامة أمريكا بلا منازع، وبين من يطلبون التواضع والاستعداد لمنافسة جديدة قد تكون أصعب من القوى الصاعدة، وفي مقدمتها الصين. في ظل ذلك كله كان معدل التغييرات المجتمعية في الداخل يتصاعد، وكان يبدو أن مؤسسات الدولة «ومنها الأحزاب الكبرى» في حاجة ماسة للتغيير لكي تواجه الظروف الجديدة.

وربما كان الحزب الديمقراطي هو الأسبق في كشف عجز المؤسسة الحزبية، وحاجتها للمزيد من التفاعل مع القوى الصاعدة في المجتمع الذي يتغير بسرعة، ومن هنا كان التفكير في الدفع بمرشح للحزب الرئاسي يعكس هذا التغيير. وكان الخيار بين أوباما ممثلاً للأمريكيين الأفارقة، وهيلاري كلينتون ممثلة للمرأة، وبانتصار أوباما وفوزه بالرئاسة دخلت أمريكا مرحلة جديدة كان من المفترض أن تطور الأداء الحزبي، لكن العكس- فيما يبدو- هو ما حدث!

كانت الأزمة الاقتصادية التي ضربت أمريكا والعالم في عام 2008 كاشفة لحد كبير عن أزمة النظام العالمي بمجمله، ورغم نجاح أوباما في عبور الأزمة فقد كان الثمن باهظاً، وكانت التجربة قاسية على الطبقات المتوسطة والفقيرة، وكان التوجه نحو المزيد من العدالة الاجتماعية يواجهه- على الجانب الآخر- جنوح يزداد تطرفاً نحو اليمين، وهو الجنوح الذي توسع في كل دول الغرب والذي تمثل في جماعات تناهض العولمة ونتائجها، وتتجه نحو الانعزال والعنصرية بدرجات متفاوتة.

وسط هذا كله استمر ضعف الأداء الحزبي في أمريكا كما في أوروبا، في الحزب الديمقراطي فلم يكن هناك جديد بعد أوباما، اختاروا كلينتون استمراراً للخط نفسه مع أداء ضعيف لمؤسسة الحزب، وانقسام بدا واضحاً بين خط القيادة وتطلعات الأجيال الجديدة، التي التفت حول السيناتور «بيرني ساندرز» القادم للحزب من صفوف المستقلين، أما في صفوف الجمهوريين فقد كانت الأزمة أكبر، حيث فوجئت مؤسسة الحزب بالقادم من خارج صفوفه بلا تجربة سياسية يسقط كل رجالها، ثم يحقق المفاجأة ويهزم كلينتون، ويدخل البيت الأبيض ليقلب كل الموازين ويغير كل السياسات، ويدخل أمريكا والعالم «مرحلة ترامب» في واحدة من أكبر تقلبات السياسة الدولية في السنوات الأخيرة.

وفي حقيقة الأمر لم يكن ترامب قادماً من فراغ، بل لعله كان قادماً ليملأ الفراغ في مؤسسة الحزب الجمهوري، كان ترامب قادماً ليمثل التيارات الصاعدة من أقصى اليمين والتي كانت ترى أن الحزب يخسر كلما جنح- ولو قليلاً- إلى الوسط، والتي كانت ترى في مرحلة أوباما انقلاباً على القيم الأمريكية كما تراها، كان ما بدأ في تحركات صغيرة داخل وخارج الحزب قد أصبح تياراً واسعاً يضم أقصى اليمين والمنحازين للجنس الأبيض والإنجيليين المتصهينيين، وكانت مؤسسة الحزب القديمة من الضعف، بحيث تمكن ترامب خلال أقل من عامين أن يهيمن تماماً على الحزب.

أما الديمقراطيون فقد بات واضحاً أن صدمة هزيمتهم أمام ترامب في انتخابات 2016 فاقمت أزمتهم الداخلية، ورغم انخراطهم في معارك متواصلة مع ترامب فقد كانت كلها في دائرة رد الفعل، ومع انتخابات هذا العام تأكد ضعف الأداء الداخلي لمؤسسة الحزب، وافتقاده للمبادرات الجديدة سواء على مستوى السياسات أو القيادات، والأخطر افتقاده لجهد حقيقي لتوحيد الصفوف خاصة بعد تجربة انتخابات الرئاسة السابقة، التي خسرت فيها كلينتون ولايات مهمة، لأن بعض شباب الحزب الديمقراطي لم يروا فارقاً حقيقياً بينها وبين ترامب!

وجود ترامب مرشحاً وحيداً للجمهوريين وسيطرته الكاملة على الحزب قد تخفي أي صراعات داخلية، لكنها تكشف- في الوقت نفسه- عن هشاشة البنيان الأساسي للحزب، وتثير السؤال حول ما إذا كان الحزب سيجنح إلى أقصى اليمين مع زيادة نفوذ أنصار ترامب أم سيعيد البوصلة إلى يمين أكثر اعتدالاً يؤثر في سياسات ترامب بقدر ما يتأثر بها؟

* كاتب صحفي