منذ البداية كان يسير في طريق مسدود.. لكنه وحده كان قد استبد به هوس أن يكون السلطان العثماني الجديد. ووحده كان يتوهم أن تحالفه مع الإخوان سوف يمكنه من استعادة السلطنة، ووحده كان يؤمن أن «عبقريته» سوف تجبر العالم كله أن يستسلم لأوهامه المستحيلة!!
وهكذا مضى أردوغان حاملاً الفيروس الإخواني، متصوراً أنه قادر على التلاعب بالجميع، وأن يكون «اللاعب الأكبر» في المنطقة الذي تسعى كل القوى الدولية لأن يكون حليفها. وكان عليه أن ينتظر سنوات لكي يصل إلى الوضع البائس الذي يعيشه الآن، بعد أن سقطت كل الأقنعة، ووجد نفسه وسط الأزمات بلا حليف حقيقي وبدون رؤية تبعده عن الهاوية التي تكتب نهاية الحماقات!!
مع تطورات الأزمة السورية والضربات المتلاحقة التي تلقاها الرئيس التركي هناك، انكشف حجم المخاطر التي قاد الرجل بلاده إليها بسياساته العدوانية، وما ظنه عبقرية فريدة من اللعب على كل الحبال. لم يكن – في حقيقته – إلا لعبة بين الكبار يتم استخدامه فيها من الجميع حتى ينتهي دوره!!
ظن أردوغان أن صدامه مع الروس في سوريا سوف يفتح أبواب واشنطن أمامه. ولم يجد الرجل إلا بعض كلمات التأييد التي لا بد منها لدولة مازالت عضواً في حلف «الناتو». مع الكلمات كان عليه أن يسمع ما يؤكد أن واشنطن لا تستطيع أن تنسى صفقة الصواريخ الروسية، ولا تثق بمن تجاوز الهامش المسموح للمناورة في علاقاته مع موسكو متوهماً أنه قادر على فرض قواعد جديدة للعبة لا يمكن السماح بها.
ولم يكن ممكناً أن ينتظر أردوغان غير ذلك، خاصة أن الدور التركي في سوريا وغيرها مكشوف بكامله أمام واشنطن. وأنه لا يستطيع تكرار الأكاذيب عن حرب ضد «الإرهاب» هناك. فواشنطن تعرف جيداً كيف كان أردوغان ومازال الداعم الرئيسي لعصابات الإرهاب هناك، وواشنطن تعرف جيداً أنه لم يقاتل هناك إلا جيش سوريا وقوات الأكراد التي يعتبرها أساس الإرهاب بينما كانت في المقدمة تحارب إرهاب الدواعش والإخوان!!
ولم تكن الولايات المتحدة وحدها هي من اتخذت هذا الموقف، كانت أوروبا أيضا تسير على نفس الطريق رغم سياسة الابتزاز الذي يحاول أردوغان الاستمرار فيها بحشد عشرات الألوف من اللاجئين على الحدود بين بلاده وأوروبا، والتهديد بإبقاء الحدود مفتوحة أمام نحو أربعة ملايين لاجئ آخرين، الرد الأوروبي كان حاسماً في أن هذا الابتزاز الذي يمارسه أردوغان منذ سنوات لم يعد مقبولاً. وأن حل أزمته في سوريا يكون بخروج قواته منها وإنهاء الحرب هناك وعودة السوريين لبلادهم.
هذا الموقف من أوروبا لا يتنافى مع استمرار تقديم المساعدة المالية لتركيا (وقد قدمت حتى الآن حوالي خمسة مليارات يورو، ولا يتنافى مع الحرص على استمرار العلاقات مع تركيا باعتبارها عضواً مهماً في حلف الناتو،لكنه يرفض سياسات أردوغان ومحاولاته الابتزاز وخلقه المشاكل حول غاز المتوسط وتهديده قبرص واليونان واستقرار المنطقة وأوروبا.
الفشل في اجتذاب دعم حقيقي للموقف التركي في سوريا من أمريكا أو من أوروبا كان حاضراً بقوة عندما وافق الرئيس الروسي بوتين أخيراً على استقبال أردوغان، وعندما تم تسريب (الفيديو) الذي يظهر أردوغان منتظراً مع الوفد التركي لبضع دقائق حتى تفتح الأبواب للقاء بوتين.. في رسالة واضحة كان أردوغان نفسه – في ظروف أخرى – سيعتبرها إهانة، لكنه هنا ابتلعها بسهولة في اعتراف بأن حجم الدور المقرر له لا ينبغي تجاوزه!!
يعرف أردوغان أكثر من أي وقت مضى أن مشروعه يتهاوى. ومع ذلك يمضي في المناورة لأن ثمن الاعتراف بالفشل سيكون مدمراً، ولم يكن غريباً أن تكون آخر «افتكاساته» أنه عرض على بوتين أن يكون شريكاً له في استثمارات بترول منطقة دير الزور (دون أن يقول بأي صفة!!) لكي يحاول أن يضمن موقعاً في عملية إعادة إعمار سوريا وليكون لديه ما يقدمه للأتراك حين يسألونه: لماذا ذهبت بنا إلى سوريا ثم عدت خائباً؟!
ويراهن أردوغان على أن الانتخابات العامة مازالت بعيدة، ولكن ما يجري داخل تركيا وخارجها لا يمنحه ذرة من أمان، الأزمة الداخلية تشتد، والمعارضة – رغم القمع – تقوى حتى داخل حزبه، ودعم الإخوان يأتي بآثار عكسية لأنه يعني ربط تركيا بالإرهاب.
* كاتب صحفي