ربما تكون أزمة «كورونا» هي الأزمة الأخطر، التي يواجهها العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، كما قالت مؤخراً مستشارة ألمانيا أنغيلا ميركل، وبالتأكيد فإن العالم وهو يقاتل هذا الوباء اللعين يعيش لحظة فارقة، يتغير فيها الكثير من الحسابات الاستراتيجية، وتنفتح فيها الأبواب أمام تغييرات سياسية واقتصادية وعسكرية تقول: كل المؤشرات أن العالم بعدها لن يكون كما كان من قبل!وبعيداً عن نظرية المؤامرة المعهودة، يبدو لافتاً هذا الصراع المتصاعد بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، وتبادل الاتهامات حول المسؤولية عن كارثة «كورونا» ومحاولة إثبات التفوق في مكافحة الوباء.

كما بدا لافتاً أن توجه أوروبا، التي أصبحت مركز الوباء الاتهام إلى روسيا بمحاولة استغلال الموقف لإضعاف أوروبا أكثر وأكثر.

ولم يأت هذا كله من فراغ، بل ضرب وباء «كورونا» العالم وهو يعيش لحظة أزمة، النظام العالمي الذي تم بناؤه بعد الحرب العالمية الثانية لم يعد صالحاً للاستمرار، ما كان يشاع عن سيطرة نهائية للغرب بعد نهاية الحرب الباردة أو زعامة منفردة للولايات المتحدة على مقدرات العالم ثبت بطلانه، ملامح العالم الجديد ما زالت تتشكل، الصين الصاعدة بدأت تترجم قوتها الاقتصادية إلى نفوذ سياسي وقوة عسكرية، روسيا تستعيد قوتها بينما أوروبا تمزقها المشاكل، وبينما تواجه «العولمة» مأزقاً كان الصراع يتصاعد بين القوى الكبرى، من أجل تحديد الحصص والمكانة في نظام عالمي مقبل متعدد الأقطاب، وإن كان الطريق إليه يبدو مليئاً بالعقبات والألغام التي تهدد بالانفجار في أي لحظة.

لم يكن العالم في أحسن حالاته قبل «كورونا»، لكن الأزمة كشفت بشكل فادح عن عدم كفاءة النظام العالمي، الذي ينفق على السلاح أكثر مما ينفق على الصحة العامة.

قبل أسابيع ومع بداية أزمة «كورونا» أشرت هنا إلى أن «كورونا» قد تكون عاملاً مؤثراً في انتخابات الرئاسة الأمريكية، لم يكن الخطر يومها بهذه الدرجة، ولكن كانت السياسات الصحية في أمريكا مطروحة بقوة في الانتخابات، وكان موقف الرئيس ترامب المعارض لخطة أوباما للتوسع في التأمين الصحي للمواطنين موضع انتقاد شديد خاصة من السيناتور ساندرز، ورغم ذلك ومع الأنباء الأولى لمخاطر «كورونا» بدا الرئيس الأمريكي يتعامل باستخفاف، ويؤكد أنها مجرد «إنفلونزا» ستنتهي خلال أيام أو أسابيع، ولا داعي للتهويل في الأمر من جانب الديمقراطيين.

الآن اختلف الوضع، وبدأ الرئيس الأمريكي يحشد الإمكانات الأمريكية الهائلة لمواجهة الموقف، لكن التأخير كان ضاراً، والمشكلة تتضاعف مع المخاطر الاقتصادية والاجتماعية، التي ترافق كارثة «كورونا» وتهدد أمريكا والعالم بعواقب وخيمة، المؤكد أن الأمر يعكس قلقاً حقيقياً يتجاوز الجانب الشخصي المتعلق بمستقبل ترامب في عام انتخابي حاسم، إلى الجانب الخاص بمستقبل الصراع بين القوتين المتصارعتين على مقعد القيادة في النظام العالمي الجديد.

قد يكون مبكراً الحديث عن ذلك، والعالم مشغول بالتصدي للفيروس القاتل، لكن الأزمة- مهما كانت قاسية - ستمضي، والعالم سينتصر على الوباء، والعلم سيصل للعلاج، سيكون الثمن فادحاً بلا شك، وسيكون على العالم أن يواجه الآثار الخطيرة التي سيتركها الوباء اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، وكل التقديرات تقول: إن الخسائر ستكون هائلة، وإن الجهود المطلوبة لتجاوز هذه الآثار سوف تستغرق سنوات تتغير فيها الموازين، ويعاد النظر في السياسات والاستراتيجيات، وينفتح الطريق لعالم سيكون مختلفاً لحد كبير مع ما كان قبل «كورونا»، وعلى هذا الطريق تبدو الحرب الحالية ضد الوباء مثلاً كانت الحرب العالمية الثانية مؤشراً لنظام عالمي جديد ربما تتحدد معالمه الآن، سيعبر العالم هذه الفترة الصعبة وسيتجاوز آثارها السلبية الخطيرة، حتى وإن طالت فترة التعافي، لكن المؤكد أن الأسئلة التي تطرح الآن هي التي ستحدد معالم النظام العالمي الجديد الذي يولّد وسط الأزمة، وما أكثر الأسئلة في زمن «كورونا».

** هل سيكون ممكناً بعد هذه التجربة المؤلمة أن نضع العالم بين خيار الديمقراطية أو العدالة؟! أم أن ندرك نظاماً عالمياً يسعى للجمع بين القيمتين أصبح هو المطلوب لإنقاذ العالم؟

** وهل سيغفر العالم- بعد هذه التجربة المؤلمة - جرائم نظام عالمي ينفق على السلاح أضعاف ما ينفق على سلامة البشر والحفاظ على صحتهم؟

الأسئلة كثيرة والإجابات لا تأتي وسط الحروب لكنها تتكون أثناءها. حرب البشرية ضد «كورونا» ستنتهي بالانتصار، الثمن الفادح، الذي تدفعه البشرية لا بد أن يكون الدليل إلى نظام عالمي جديد لا يخضع لحسابات البورصة، ولكن لاحتياجات البشر.