لم يمر على الدبلوماسية وقت أصعب مما تمر به حالياً منذ توقيع معاهدة وستفاليا في العام 1648، التي يعتبرها المؤرخون أول اتفاقية دبلوماسية، يعرفها العالم في العصر الحديث، فمنذ ذلك الوقت أخذت الممارسة الدبلوماسية أهميتها كونها أداة مثلى لحل النزاعات وتحقيق المصالح بين الدول، وتوسعت مفاهيمها وأساليبها بشكل كبير، خاصة بعد قيام منظمة الأمم المتحدة في العام 1945 وما أقرته من أهداف ومقاصد أهمها حفظ الأمن والسلم الدوليين وإنماء العلاقات الودية بين الأمم، كما جاء في المادة الأولى من ميثاق الأمم المتحدة، وتبعاً لذلك انخرطت الدول في العديد من المؤتمرات والاجتماعات الدبلوماسية التي هدفت لتوسيع التعاون بين دول العالم، فظهرت التكتلات الإقليمية والدولية، وتم تشجيع التعاون والتبادل بين الشعوب، وعمدت كثير من الدول على فتح حدودها وتشجيع حرية الحركة مع غيرها من الدول، واستمر الحال على ذلك المنوال حتى ظهور فيروس «كورونا» في بدايات العام الحالي 2020، فتعطلت الاجتماعات الدولية وألغيت الزيارات الرسمية أو أجلت إلى أجل غير مسمى، واقتصر دور الدبلوماسيين في شتى أرجاء العالم على متابعة تطورات انتشار فيروس «كورونا» أو مساعدة مواطنيهم في البلدان المعتمدين لديها للعودة إلى أوطناهم.
«عن بعد»
وفي معرض الالتزام بإجراءات التباعد الاجتماعي (Social distancing) التي فرضتها معظم دول العالم، عملت كثير من المنظمات الدولية والبعثات الدبلوماسية على مزاولة مهامها عن بعد، فشهدنا خلال الشهر الماضي انعقاد عدد من القمم والاجتماعات رفيعة المستوى عبر الإنترنت، ومنها قمة العشرين وقمة دول الإيقاد التي ترأسها رئيس الوزراء السوداني د. عبد الله حمدوك. وعلى مستويات أدنى واصلت العديد من المنظمات الدولية تسيير أعمالها عن طريق الاجتماعات الافتراضية (Virtual Meetings )، مما يدفعنا إلى القول إن التكنولوجيا هي أداة الدبلوماسية الأهم في الوقت الحالي، وفي الحقيقة أنه على الرغم من أن التكنولوجيا لعبت طوال الأعوام الماضية دوراً مهماً في تغيير جزيئات مهمة في أنماط الحياة والممارسة العملية في مختلف القطاعات، إلا أنها ظلت تواجه وفي ما يتعلق بالعمل الدبلوماسي، مقاومة من المدرسة التقليدية التي يرى مناصروها أن لا غنى عنها لأداء العمل الدبلوماسي على الوجه الأكمل، وأن إقامة واستدامة العلاقات بين الدول تتطلب التواصل المباشر بين ممثليها.
في الوقت الحالي لا تملك أية جهة الإجابة عن السؤال المطروح: متى ستنتهي جائحة «كورونا»؟ كما أنه من غير المعلوم إلى متى ستستمر الإجراءات الاحترازية المفروضة من قبل الدول لمنع انتشار فيروس «كورونا»، إلا أنه من المتفق عليه بشكل كبير أن العالم ما بعد «كورونا» سيكون مختلفاً عن العالم الراهن، ستتغير كثير من السياسات والمفاهيم سواء كان في جانبها الاجتماعي أم العملي، وبصفة خاصة ستتأثر قطاعات اقتصادية لها إسهامها المقدر في حركة الاقتصاد العالمي مثل قطاعات الطيران والسياحة والفنادق وغيرها من القطاعات المرتبطة، كما ستكون حركة الناس حول العالم أكثر صعوبة وتقييداً خلال الفترة المقبلة استمراراً للإجراءات الاحترازية التي يشهدها العالم، ودون شك فإن ذلك سيلقى بظلاله الكثيفة على الدبلوماسية بشكلها التقليدي، فمن غير المتوقع أن تتواصل حركة الوفود بين الدول بشكلها السابق، ومن غير المنتظر أن تستأنف المنظمات الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة اجتماعاتها في مقاراتها المختلفة في المستقبل القريب، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار على سبيل المثال أن مدينة نيويورك التي تحتضن المقر الرئيس للأمم المتحدة، هي المدينة الأكثر تأثراً في العالم جراء تفشي جائحة «الكورونا».
المنظمات الدولية
من زاوية أخرى، فإنه من المؤكد أن جائحة «كورونا» ستؤثر على اقتصادات الدول بشكل واضح، وستنصرف معظم الدول لمقابلة احتياجاتها الداخلية كونها أولوية لها، ما يدفعنا للتساؤل عما إذا كان عمل المنظمات الدولية سيتواصل بالوتيرة نفسها؟ باعتبار أن ميزانية المنظمات الدولية تعتمد على مساهمات الدول الأعضاء بها بشكل رئيسي. ويقودنا ذلك لاستنتاج أن تأثير «كورونا» قد يمتد ليؤثر بصورة واضحة على طريقة عمل المنظمات الدولية، وهذا لا يعني أن أهمية الدبلوماسية متعددة الأطراف ستقل أو تضمحل، بل على العكس ستزيد أهميتها من حيث حجم التحديات التي ستواجه عالم ما بعد جائحة «كورونا» (منظمة الصحة العالمية على سبيل المثال)، إلا أنه من المتوقع أن تختلف الطريقة التي سيتم بها إدارة ذلك العمل وفقاً لحجم الموارد والميزانيات المخصصة.
عموماً يدفعنا ذلك للنظر من زاوية أخرى إلى ماهية أوجه التعاون الدبلوماسي، التي قد تزدهر وتنمو بين الدول في ظل هذه الظروف غير المسبوقة- وحتى ما بعد فترة «كورونا» التي نأمل أن تنتهي في أقرب وقت- وتبرز «الدبلوماسية التكنولوجية» كونها أحد أهم المجالات التي من المتوقع أن تشهد توسعاً كبيراً في إطار مفهومها وتطبيقاتها،. وفي القدر ذاته من الأهمية فإن الدبلوماسية الطبية ستكون لها مكانتها ونصيبها الكبير من الاهتمام، حيث إن العالم سيعمل خلال الفترة المقبلة على الوصول إلى مرحلة متقدمة من تطبيق البروتوكولات الصحية والطبية المشتركة وذلك بعد أن أثبتت جائحة «الكورونا» عدم جدوى الحلول الفردية في مواجهة مثل هذه التحديات.
في الختام يمكن القول إنه وفي الوقت الذي قد تشهد فيه الممارسة الدبلوماسية تغييرات كبيرة على مستوى الشكل والممارسة والبروتوكولات الحاكمة لها، فإن صميم وجوهر المهام الدبلوماسية سيزيد ويتضاعف، فعالم اليوم أكثر إلحاحاً وضرورة لأهمية تضافر كل الجهود الدولية، لتجاوز المرحلة الراهنة من تاريخ البشرية.
مستشار السفارة السودانية في جنيف