أكثر من أربعة ملايين ونصف المليون إصابة، وما يزيد على 300 ألف وفاة، هي حصيلة الفيروس القاتل الذي اجتاح العالم منذ أشهر ولم توقفه حدود ولا حواجز ولم يفرّق بين إنسان وآخر، ليكون وريثاً للجوائح التي حصدت عبر التاريخ ملايين الأرواح على امتداد العالم.

فمن المدهش أن البشرية شهدت أوبئة مميتة كل مائة عام خلال القرون الأربعة الماضية، متلازمةً مع العدد 20، من 1720 وحتى 2020، ليقع البشر فريسة لأوبئة الطاعون والكوليرا والحمى الإسبانية، فهذه الأخيرة قضت على 100 مليون إنسان على امتداد العالم.

ومثلما استطاع البشر النجاة في الماضي والعودة إلى حياتهم الطبيعية، يبقى لدينا الأمل بأننا سنستطيع الانتصار على فيروس كورونا، فنحن اليوم نمتلك ما لم يكن متاحاً آنذاك من تقدّم علمي وطبي وتكنولوجي، ونحن أكثر خبرة وقدرة على تشخيص الأمراض ودراسة الفيروسات وإنتاج اللقاحات والأدوية المناسبة لها، لذلك لا داعي للهلع والاستسلام لحالات التهويل والتخويف التي تترك آثاراً مدمرة على الحياة أكثر من الفيروس نفسه!

أولى خطوات النجاح في مواجهة الفيروس هي القدرة على تشخيص الواقع الحالي من جميع جوانبه، إدارياً وصحياً واجتماعياً واقتصادياً، من أجل وضع الخطط المناسبة للتعامل مع الواقع الراهن، ورسم خارطة طريق لمرحلة ما بعد الجائحة.

ولأنّنا أمام تجربة لا تحدث للمرة الأولى، علينا أن نفكّر بالمستقبل، وأنماط الحياة ما بعد كورونا، مثلما فكّر من سبقونا بمائة عام ونجحوا في العودة إلى حياتهم الطبيعية.

لكننا لا نريد العودة إلى حياتنا الطبيعية كما كانت منذ ستة أشهر، وإنّما علينا أن نستفيد من هذا الدرس القاسي في تحسين مناهجنا وأساليب حياتنا في جميع المجالات، فهذه فرصتنا لنكون أفضل في كلّ شيء، بعد أن كشف لنا كورونا مواقعَ ضعفنا، والثغورَ في جدراننا الدفاعية.

على الحكومات أن تعيد النظر في أنظمتها الإدارية لتكون أكثر مرونة وقدرة على الاستجابة للكوارث والأزمات، من خلال التعاون بين جميع الأجهزة والجهات الحكومية، لتصبح كياناً واحداً يتمتع بجميع المقوّمات والإمكانيات التي تتيح له مواجهة التحديات بقوة ومرونة في الوقت نفسه.

وعلينا التركيز على استشراف المستقبل والاستفادة من تجارب الدول المتقدمة في حماية الموارد، وتسخير التكنولوجيا بأفضل الطرق، لنعتمد عليها في التعليم والعمل عن بعد، وفي المجالات الصحية، والقطاع الاقتصادي، ولاسيما أننا نشهد العصر الذهبي للذكاء الاصطناعي الذي جعل حياتنا أكثر سهولة، وأعمالنا وخططنا للمستقبل أكثر فاعلية.

كما علينا العمل بجدّية لتحقيق الاكتفاء الذاتي في جميع المجالات، وخاصة فيما يتعلق بالأمن الغذائي الذي يعدّ أمراً حيوياً على درجة كبيرة من الأهمية.

لذلك لا بدّ من التركيز على القطاع الزراعي والثروتين الحيوانية والسمكية، والاهتمام بتطوير مراكز الأبحاث الزراعية والصناعات الغذائية، وتشجيع الأهالي على الزراعة المنزلية، إضافة إلى إعادة النظر في أشكال الاستثمار الصناعي، وتوسيع دائرة الصناعات التي تقدّم حلولاً حقيقية للأوضاع الاقتصادية الراهنة، وتسهم في بناء مستقبل واعد للأجيال القادمة.

ومن نافلة القول إن الالتزامات والعادات الاجتماعية المتعارف عليها أصبحت من الماضي، ومن الضروري أن نعمل على تقييم وتقويم أنظمتنا الصحية وخططنا التوعوية، وأن نعيد ترتيب الأولويات ليكون القطاع الصحي في رأس القائمة، وأن نولي العلماء والباحثين والأطباء والعاملين في القطاعات الحيوية كالصحة والتعليم والأبحاث والتكنولوجيا، اهتماماً أكبر.

فقد أثبتت الشهور الماضية أن الرياضيين والواعظين والسياسيين والممثلين والمطربين الذين يتقاضون أعلى الأجور؛ لا يستطيعون تقديم أي مساعدة وقت اللزوم، بينما تطلّع العالم بأكمله إلى الباحثين والعلماء لكي ينقذوا الجنس البشري من انقراضٍ محتمل.

لم نفقد الأمل بعد في السيطرة على هذا الوباء، بل إننا على ثقة بأنّ الوعي البشري قادر على مجابهة أي كارثة، وإيجاد الحلول الناجحة للنجاة بالجنس البشري الذي استطاع الصمود على هذا الكوكب لآلاف السنين، فقط بقدرته على التأقلم والاستفادة من دروس الحياة القاسية.

وفي الوقت نفسه نحن على يقين بأنّنا مهدّدون بخطر جديد دائماً، لذلك علينا أن نكون على أهبة الاستعداد لمواجهته والانتصار عليه، مهما كان نوعه، الأمر الذي يؤكّد ضرورة تطوير المنظمات الحكومية والإدارية ومنظومات إدارة المخاطر والأزمات، ووضع جميع السيناريوهات المحتملة موضع الدراسة والبحث، وتسخير الموارد التكنولوجية والتقنيات الحديثة لابتكار أفضل الطرق لمواجهة هذه المخاطر.

كما أننا أمام تحدّ جديد للمستقبل، هو تنشئة جيل أكثر وعياً وقدرة على مواجهة المخاطر، عبر تأهيله وتمكينه وتثقيفه بأفضل الوسائل، ليكون جيلاً مستعداً ومتأهّباً لأي كارثة محتملة.

فهل سننجح في هذا التحدي؟! هذا ما ستثبته الأيام المقبلة.

* رئيس مجموعة الدكتور أحمد النصيرات للتميز والابتكار