الحديث عن المستقبل يشبه الحديث عن وجود مياه في باطن أي بقعة من الأرض، قد يصدق وقد لا يصدق، ولكن ثمة حالات ينجح فيها التكهن بوجود هذه المياه في جوف الأرض، وهي التي تستند إلى المنطق وتعمل بالأسباب الابتكارية المتطورة كاستخدام الأجهزة المتطورة الخاصة باكتشاف وجود مياه من عدمه ولكن لا بد حينها لتحقيق النجاح من العقلية الهندسية الواعية بما يجب.

ولعلها مقدمة جيدة لما نود الحديث عنه في هذا المقال وتتوافق معه تماماً، حيث إن بوصلة الأحداث الآنية في سياق الأنظمة المعرفية تشير إلى تحول كبير سيشهده العالم خلال سنوات قليلة قد تكون عقداً واحداً فقط على أكثر تقدير.

تقول المعطيات الحالية إن ثمة نشاطاً وحركة دؤوبة على صعيد دولي غير مسبوق لعديد من المؤسسات في مختلف المجالات للاستثمار في المجال الإبداعي واستقطاب للموهوبين والمبدعين بعقود منح باهظة في عطائها وسخية، وهذا الفعل تعبير عن حالة مستقبلية تشق طريقها من الآن بوضوح، فالنظام المعرفي يعتمد على الابتكار في أهم مقوماته، ولأن رأس المال المعول عليه في النظام المعرفي أولاً هو رأس المال البشري الذي هو جوهر العملية الابتكارية وقوامها.

وعملية الاستقطاب ومنح الموهوبين والمبدعين عقوداً سخية من قبيل تبني ورعاية نتاجاتهم موضوع مستقبلي حساس جداً.

حيث سيؤدي التوجه نحو التكنولوجيا في كافة المجالات والاقتصادية أهمها إلى اختفاء المركزية بشكلها المألوف، وسيحل بديلاً للأشكال التقليدية الحاضرة أشكال حداثية تتواءم مع متطلبات النشاط في النظام المعرفي، فالبنوك المالية وشركات الصرافة مثلاً ستأخذ في شكلها الجديد المستقبلي توجهات جديدة في عملها هي بعيدة كل البعد عن السياقات التقليدية.

والابتكار هو جوهر ممارستها ونشاطها وموضوعها، ولذلك سنجد أن الممارسة الحاضرة لتلك المؤسسات التي تنشط الآن في استقطاب المبدعين والموهوبين وتحاول أن تستثمر بأكبر قدر ممكن في ما يمتلكونه من مواهب وإمكانات وقدرات، كل ذلك سيكون عمل البنوك المالية مستقبلاً وستسمى بنوكاً معرفية وفكرية وابتكارية وسيكون ثمة حماس كبير وتنافس على صعيد دولي في استقطاب المبدعين والموهوبين من قبل هذه البنوك التي سنراها مستقبلاً.

ومن المهم القول إن ثمة مؤسسات منذ الآن قد استوعبت في ممارستها ونشاطها في رعاية الموهوبين والمبدعين عدة مفاهيم عصرية مهمة، هي ذاتها مفاهيم عصر المعرفة، التي ترى أن رأس المال الحقيقي الذي يمكن أن يعول عليه في كل الاتجاهات سواء اقتصادياً أو اجتماعياً أو ثقافياً أو غير ذلك هو رأس المال البشري الذي قوامه مواهب الإنسان وإمكاناته وإبداعاته، ونلمس لدى الكثير منها الجدية في سيرها الحثيث في هذا الطريق المتوائم مع الأنظمة المعرفية الجديدة التي قوامها المعرفة الإنسانية، ولعل من الحق القول إن ممارسة هذه المؤسسات بكل أشكالها تسبق الزمن الذي نعيشه بسنوات ربما ستعيشها المنطقة العربية بعد عشرة أو خمسة عشر عاماً على أفضل تقدير.

وأهم ما أود قوله هنا إن مهمة أي مؤسسة تنشط في سياق رعاية المبدعين والموهوبين أياً كان شكلها تجاه الموهوبين والمبدعين في كافة المجالات التي يتخصصون فيها تشبه القيام بفعل «لمسة ميداس» تماماً مثل الآلة العبقرية حين تحول الحديد البسيط في قيمته إلى تحفة ميكانيكية تساوي ملايين الدولارات، فهذه المؤسسات يجب أن تقوم بمساعدة كل ذي موهبة على صقل موهبته وتهيئ له من الأسباب ما يكفي ليخرج بفنه وإبداعه إلى سياقات إبداعية على أصعدة دولية وعالمية.

يبقى التنويه إلى مسألة الابتكار في الممارسة الإبداعية، لأن الابتكار قوام النظام المعرفي وهو ما يعتمد عليه في بناء المستقبل والارتقاء بالوطن وأبنائه. أما الروتين واتباع المناهج التقليدية فيمكن القول إن في ذلك إحراقاً للموهبة الإبداعية. والابتكار سيحدث بالانفتاح على تجارب الآخرين والإلمام بتفاصيلها ثم إنتاج ابتكارنا الخاص الذي يميزنا عن الكل ويسمح لنا برسم درب جديد في مضامير الإبداع يتبعه اللاحقون. وللحديث بقية.

* خبيرة الاقتصاد المعرفي