وسط الجائحة الكبرى التي تلم بالعالم، وفي وقت استحكمت فيه الأزمة الاقتصادية بالدول والأمم، وفي ظل حالة كبيرة من الشك وعدم اليقين من الحالة الإنسانية بوجه عام، وبعد أن سيطرت فكرة «نهاية العولمة» وعجز المؤسسات الدولية عن إدارة معضلات العالم الكبرى وعدم المساواة في الدخل والثروة والفرصة.

وفوق ذلك انفجار الولايات المتحدة بأزمة كبيرة أخرجت إلى شوارع عواصمها مئات الألوف من البشر في انتفاضة كثر فيها العنف؛ ووسط ذلك كله انطلق الصاروخ «فالكون» حاملاً الكبسولة «التنين»، ومعها اثنان من رواد الفضاء - روبرت بينكين ودوغلاس هارلي - في الطريق إلى محطة الفضاء الدولية. بدا الأمر خارج السياق في الأحداث العالمية لأنها استعادت إلى الأذهان ذكريات مضت عن محاولات الإنسان أولاً للخروج خارج نطاق الكرة الأرضية، ثم الوصول إلى القمر.

ومن بعدها إنشاء محطة دولية اشتركت فيها ١٦ دولة أهمها بالطبع الولايات المتحدة وروسيا، ومن خلالها يبدأ البحث في الفضاء السحيق وصولاً إلى المريخ، وربما ما وراء ذلك ما بعد مجرة الشمس التي نعيش فيها. ظهر الأمر كما لو كان جملة اعتراضية على أحداث كبرى، ولكن الحقيقة هي أن الخروج إلى الفضاء ربما كان هو السياق الحقيقي الذي لا ينبغي للعالم الانحراف عنه.

ولكن لحسن الحظ أن كل ما يتعلق بغزو الفضاء يجري التحضير له على فترات زمنية كبيرة، ويجري الإنفاق الكثيف عليه إلى الدرجة التي يصعب بعدها التراجع عنه، ومن ثم فإن الرحلة كانت مقررة، ومحددة الانطلاق، قبل وقت طويل من «كورونا» و«الأزمة الاقتصادية»، والانفجار الأمريكي.

وكما كان الحال في رحلات الفضاء السابقة فإنها تعد جزءاً من برنامج متعدد الأبعاد يحقق سلسلة من الإنجازات ومن بعدها يكون هناك برنامج آخر أكثر طموحاً وتوغلاً فيما وراء الكوكب. البرنامج الحالي حصيلة تعاون شركة خاصة SpaceX يملكها الملياردير آلان ماسك الذي اشتهر عالمياً عن طريق سيارة «تسلا» الكهربائية التي تسير من دون سائق إذا ما أريد لها ذلك.

الرجل وشركته ومحاولته الجديدة هي تعبير جيل جديد من رجال الأعمال والمستثمرين يأتي بعد العباقرة من سابقيهم «بيل جيتس» و«ستيفن جوبز» أصحاب مايكروسوفت وآبل. الآن فإن «ماسك» و«بيزوس» صاحب شركة «أمازون» يريدون الخروج من ضيق الأرض إلى الفضاء الفسيح.

فيحاول «بيزوس» أن يقيم قاعدة بشرية فضائية على القمر في عام ٢٠٢٤؛ أما «ماسك» فيريدها على كوكب المريخ، ولم يحدد موعداً لذلك. المعضلة الكبرى الأولى في مواجهة هذه الطموحات هي أن بناء قاعدة على القمر أو المريخ معناه نقل أحمال كبيرة من كوكب الأرض إلى الفضاء الخارجي وإعادة بنائها على قمر أو كوكب.

مثل ذلك لا يمكن حدوثه بأنواع المركبات الفضائية السائدة من قبل سواء كانت التي تستخدم مرة واحدة أو حتى التي كانت من طراز «المكوك» مثل «كولومبيا» أو «ديسكفري» التي استخدمتها «ناسا» من قبل حتى عام ٢٠١١ ثم توقفت. الآن تعود «التنين» لكي تستأنف المهمة مرة أخرى فيعاد استخدامها ومن بعدها تتكرر التجارب التي يبدو أنها سوف تضع المحطة الفضائية الدولية موضع الاستخدام للوصول إلى مكان آخر.

ولكن غزو الفضاء لا يستخدم لأغراض اقتصادية، تزيد من رقعة الأرض وتفتح آفاقاً واسعة لتكنولوجيات الاتصال والمواصلات والآن النقل واسع النطاق؛ وإنما أيضاً تستخدم لأغراض سياسية. الرئيس الأمريكي دونالد ترامب استغل فرصة انطلاق مركبة الفضاء إلى مسيرتها الفضائية لكي يعزز موقفه السياسي وسط سلسلة من الأزمات المتتابعة.

ورغم أن رحلة المكوك الحالي كانت نتيجة تطورات علمية وتكنولوجية تنسب إلى إدارات سابقة إلا أن ترامب بقدراته الإعلامية جعلها احتكاراً خالصاً لإدارته. ومن ناحية أخرى فإن وكالة «ناسا» جعلت من الإطلاق مناسبة لكي تعيد للرأي العام الأمريكي وعيه بأزمنة مجيدة؛ ولكي تعيد للكونغجرس اهتمامه ببرنامج الفضاء الأمريكي.

وربما كان الأمر لا يخص أمريكا وحدها ومحاولتها استعادة بعض من المكانة المهددة، وإنما يخص العالم كله من زاوية الإحساس بالكرة الأرضية التي تشمل البشرية كلها، ومن زاوية التعاون الدولي الممثل بالمحطة الدولية الفضائية. ويبدو أنه رغم كل ما يجري على وجه الأرض فإنه لا مفر من الشعور بأن هناك عالماً واحداً حتى ولو انقسم أحياناً إلى عوالم متفرقة.

* كاتب ومحلل سياسي