فتحت المساجد أبوابها لاستقبال المصلّين، وعادت الحركة إلى الأسواق ومراكز الأعمال، وخرج الناس إلى الشوارع... هذه الصورة كانت حلماً منذ شهر مضى، فقد كان السجان قابعاً أمام زنازين وهمية حبست مليارات البشر على امتداد العالم، والسجان مجرّد كائن لا يرى بالعين المجرّدة، ولكنّه أقوى من أن يستهان به!بفضل الله تعالى استطعنا فهم فيروس كورونا إلى الدرجة التي تمكّننا من التعايش مع وجوده، بحيث نحمي أنفسنا عبر إجراءات وقائية معروفة، نتخذها على الصعد الفردية والاجتماعية والحكومية، ولكن ذلك لا يعني أننا في أمان تام، وإنّما في أمان نصنعه بأيدينا عندما نحسن التصرّف.
عودة الحياة إلى سابق عهدها ولو بشكل جزئي تجعلنا نفكّر في المرحلة المقبلة لنكون أكثر قدرة على مواجهة أي خطر جديد أو أزمة طارئة، فقد مررنا بتجارب كثيرة، ولكن هذه التجربة كانت أكثرها قسوة، ومع ذلك أثبتت فيها دولة الإمارات أنها من أكثر الدول جهوزية وقدرة على مواجهة الأزمات، فالإجراءات التي اتخذت خلال هذه الأزمة على جميع الصعد، تجعل من الإمارات نموذجاً يحتذى به في الاستفادة من الدروس الصعبة، والتصدّي للكوارث والتحدّيات.
واليوم نحن أمام تحدّي المستقبل، ولا سيما أننا دولة استطاعت التميّز في قدرتها على استشراف المستقبل، ووضع الخطط والبرامج الكفيلة ببناء منظومة حكومية متكاملة، تتمتع بأعلى درجات الكفاءة في إدارة الموارد وتنفيذ الخطط والمبادرات وتقوية الاقتصاد، بما يصبّ في مصلحة الوطن والمواطن.
والمرحلة المقبلة تفرض إجراءات جديدة تستجيب لحالات الطوارئ، عبر تدعيم الموارد المتاحة وتطويرها، وإدارتها بكفاءة عالية، وخاصة مواردنا البشرية، التي تعدّ رأس المال الأغلى، والتي تتطلب المزيد من الاهتمام والرعاية، انطلاقاً من مراحل التعليم المبكرة، وهنا لا بدّ من دراسة متأنية لقطاع التعليم، بحيث يتمّ تطوير المناهج لتكون أكثر فاعلية ومرونة، وبحيث ننتقل من مرحلة التلقين إلى مرحلة البحث والتحليل وحلّ المشكلات، بما يضمن استكشاف الموهوبين والمبدعين من أجل تبنّيهم وإخضاعهم لبرامج أكاديمية متطوّرة، تصنع منهم علماء وباحثين ذوي كفاءات على مستوى عالمي.
كما علينا أن نولي القطاع التكنولوجي الأولوية في خططنا وبرامجنا المستقبلية، لأنّ التجربة التي مررنا بها علّمتنا أن التكنولوجيا هي الأقدر على حلّ المشكلات الأصعب والأخطر، فقد كانت الروبوتات والابتكارات التكنولوجية المتطورة في مقدّمة الوسائل التي ساعدت على تجاوز محنة «كورونا»، وبفضل التكنولوجيا الحديثة التي أتاحت التواصل عن بعد؛ استطعنا متابعة العمل والتعليم وإدارة المؤسسات واستمرار العلاقات على المستويات الفردية والاجتماعية والدولية.
ولعلّ صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم «رعاه الله» اختصر رؤيتنا للمرحلة المقبلة بقوله: «انتقلنا من مرحلة استشراف المستقبل إلى صناعته، أنظار العالم كلها تتجه إلى دولتنا التي أصبحت تتقدم الكثير من دول العالم في توظيف التكنولوجيا للارتقاء بالقطاعات الرئيسة المرتبطة بحياة الإنسان وتوظيف الابتكار والتقنيات الحديثة في مختلف مجالات العمل والحياة». فالإمارات هي بالفعل بلد النجاح وصناعة المستقبل والمشاركة الفاعلة بالتنمية، ولكننا اعتدنا ألا نقف عند نجاحنا لنقول إننا اكتفينا، بل تعوّدنا على تحقيق المزيد من النجاح والتميّز، ولذلك فعلينا أن نسعى لأن نكون أكثر كفاءة في إدارة مواردنا البشرية والطبيعية والمالية، وأن نضع الاقتصاد في خدمة التنمية ونحرص على مواءمته مع متطلّبات المرحلة الراهنة، وأن نقوم بالتركيز على قضايا تهم الإنسان وتخدمه وتحترمه، لنأخذ بأيدي روّاد الأعمال والشباب، وندعم المشاريع المتوسطة والصغيرة، وفي الوقت ذاته نستفيد من حكمة الكبار والخبراء من الإماراتيين ليكونوا مرشدين وموجّهين لنا بما يمتلكونه من معرفة وخبرات تراكمت عبر عشرات السنين.أمّا في الميدان الصحّي، فرغم أنّ مؤشراتنا الصحية تحتلّ مركزاً متقدّماً على المستوى العالمي، حتّى في ظلّ جائحة كورونا، إلا أننا نأمل تطوير هذا القطاع وإيلاءه اهتماماً أكبر يتناسب مع حجم أهميّته، بعد أن لمسنا هذه الأهمية على أرض الواقع، ووجدنا الأطباء والممرضين والمخبريين يقفون في صفّ المواجهة الأول للتصدّي للجائحة.
بالتأكيد ستجد حكومتنا نفسها أمام تحدٍّ جديد لتكون أكثر كفاءة ورشاقة وقدرة على الاستجابة للمتغيرات، فتضمن بذلك قدرتها على التصدّي لأي طارئ جديد، والانتصار على أي كارثة، وتحقيق مستقبل آمن لأبناء وطننا الحبيب.
* رئيس مجموعة الدكتور أحمد النصيرات للتميّز والابتكار