كما يبدو من هذه المعطيات الكثيرة التي تزامن ازدهارها مع جائحة «كورونا»، وتحديداً معطيات التكنولوجيا وموجة الأتمتة التي تغلغلت في كل شيء، وتعممت على معظم المهن والوظائف.

حيث جعلت لها جائحة «كورونا» وجوداً إجبارياً كانت بمنأى عنه، أو أنها كانت ستسير ببطء في خط زمني طويل جداً ومرهق وشاق حتى يتحقق لها الوجود الشامل الذي نلمسه الآن في كافة القطاعات وشتى المجالات، وعليه يمكن القول إن «كورونا» صار معادلاً موضوعياً للأتمتة الشاملة، أو أن العلاقة التي تربط بينهما تكاملية، وكما هو واضح هي علاقة دال ومدلول، فحين تذكر جائحة «كورونا» ينصرف الذهن بتلقائية إلى الأتمتة الشاملة وكأنها إحالة من نوع ما بشكل أو بآخر.

من هنا، صار مناسباً تماماً الحديث، في هذا الوقت بالذات، عن وظائف المستقبل القريب، ولكن ليس من قبيل التنبؤ، بل من خلال ما تؤكده المعطيات التي ظهرت تباعاً منذ بدايات التكنولوجيا، وحتى ازدهارها في الوقت الراهن بسبب جائحة «كورونا»، ما جعل الرؤية حولها وحول احتياجاتها واضحة جداً.

ولعل ما تقدمه مراكز ومؤسسات استشراف المستقبل في المدن المتقدمة حيال هذا الشأن فيه الفائدة، خصوصاً حين نذهب إلى الحديث عن الاحتياجات الضرورية التي يتطلبها المستقبل القريب من مهارات واحتياجات عالمي المهن والوظائف، مع إمكانية الإضافة إليها، من خلال المعطيات الراهنة، كما وهو الأهم، ماذا يمكن أن نقوله بهذه المناسبة؟

يصنف مركز استشراف المستقبل في مدينة أبوظبي، في وثيقة مهمة صادرة عنه مؤخراً، 20 مهنة سيكون لها النصيب الأكبر في الانتشار وسيكون عليها طلباً كبيراً خلال 20 عاماً من الآن، وهي فعالة لجيل ألفا «GENERATION ALPHA» وهم المولودون بعد عام 2010، ويمكن سردها كما جاءت في الوثيقة الصادرة عن المركز وهي:

وظيفة مبرمجو الروبوتات، وأخصائيو ومحللو البيانات «نفط المستقبل»، خبراء الصحة الشخصية، طواقم العمل الداعمة لقيادة الطائرات بدون طيار، كاتب أو محاسب معزز بالذكاء الاصطناعي، طواقم العمل الداعمة للمركبات بدون سائق، مصممو ومهندسو البلوكتشين، مصممو ومهندسو الطابعات ثلاثية الأبعاد، مصرفيو العملات الرقمية المشفرة، مهندسو تصميم ومشرفو أنظمة الاستشعار، محللو ومراقبو حركة المرور في الفضاء، متخصصون في عمليات التعدين الخاصة بالكويكبات والأجرام السماوية، مهندسو مفاعلات توليد الطاقة بالإندماج، تقنية التعديل الجيني والقرصنة البيولوجية، مهندسو ومصممو ومشغلو شبكة التيوب، مبرمجو ومحللو الحوسبة الكمومية.

فنيو بناء العالم الواقعي الممزوج، باحثو ومنتجو اللحوم المزروعة مخبرياً، أخصائيو أتمتة المنازل القائمة على إنترنت الأشياء، وأخيراً وظيفة مصممو ومهندسون ومدربون وتربويون لأنظمة التدريس المعتمدة على الذكاء الاصطناعي (دون الحاجة لشخص يقوم بالتدريس).

ويمكن القول إن الطلب على بعض تلك الوظائف قد بدأ فعلياً منذ الآن، فنجد أن وظيفة طواقم العمل الداعمة لقيادة الطائرات بدون طيار، ووظيفة كاتب أو محاسب معزز بالذكاء الاصطناعي، ووظيفة مصممو ومهندسو البلوكتشين، صار لها وجود ملموس في معظم دول العالم الأول، وسيبقى خلال العقدين القادمين ازدهار أدواتها واتساع رقعة وجودها ليكون الطلب على المتخصصين فيها واسعاً جداً.

لسنا هنا بصدد سرد ما ذكر بخصوص الوظائف الأكثر انتشاراً وطلباً خلال العقدين القادمين؛ لأن الأحرى بنا بهذه المناسبة، هو التأكيد على أن الوقت الراهن مناسب جداً لكافة الشرائح في مختلف القطاعات، سواء كانوا من «جيل ألفا» أو حتى من جيل الحاضر.

حيث بإمكانهم تأهيل أنفسهم بما يحتاجه هذا المستقبل القريب من مهارات ومتطلبات، إنها فرصة لا يمكن تعويضها، وإذا كانت الأيام تمر سريعاً فالأحرى بها أن تمر ونحن نكافح من أجل تحقيق أحلامنا والعمل على رخاء وازدهار أوطاننا ومجتمعاتنا.

إن المعرفة وحق اكتسابها كانت وستظل شأناً إنسانياً صرفاً، يستطيع أياً كان في هذا العالم أن ينصرف إليها ويكتسبها بدون أي حق لأحد أن يضع عوائق تقف أمامه أو تحول دونه ودون اكتسابها؛ لأن الصفوف الأولى في فعالية المستقبل القريب ستكون من حظ أولئك الذين استطاعوا أن يقتطعوا من أوقاتهم في الحاضر ما يكفي لتأهيلهم لاحتياجات فعالية المستقبل والتحضر لها، وبدون أي تهاون أو تذمر. وللحديث بقية.

* خبيرة اقتصاد معرفي