يقول تشارلز داروين: «ليس أقوى أفراد النوع هو الذي يبقى، ولا أكثرهم ذكاء، بل أقدرهم على التأقلم مع التغيّرات».

كما في علم الأحياء نجد أيضاً في عالم الاقتصاد،إذ إن التأقلم عملية حيوية خبريّة قائمة على الممارسة العملية الممثلة في زيادة تحمّل الإنسان للتغيرات الطارئة في بيئة العمل عبر مراحل عدة.

يمكن تعريف ما أرغب في تقديمه هنا وأسميه التأقلم الحيوي الاقتصادي Economic acclimatization)‏، بأنه العملية التي يتكيّف فيها الإنسان مع التغيّر الحاصل في بيئة العمل الاقتصادية، أي التأقلم مع متغيّرات بيئة العمل، مما يسمح له بالحفاظ على التوازن عبر مجموعة من ظروف بيئة ذلك العمل.

ولا بد من الإشارة إلى الفرق بين مفهوم التأقلم ومفهوم التكيف، إذ إن التأقلم يحدث في فترة قصيرة من الزمن وبالتدريج، وضمن حياة الإنسان ذاته، مقارنة بالتكيّف، وهو تطور يحدث على مدى أجيال عديدة.

ويُعتبر التأقلم مجموعة التغيّرات الخاصّة بالتفاعلات الفيزيولوجية المساعدة على حياة الإنسان خارج موئله العملي، وفي علم الأحيائيات يحدث الشيء ذاته، فالبشر الذين يهاجرون بشكلٍ دائم يتأقلمون بشكل طبيعي مع بيئتهم الجديدة، من خلال زيادة تطور في عدد خلايا كرات الدم الحمراء لزيادة القدرة على تحمّل الأكسجين من الدم، وذلك للتعويض عن انخفاض مستويات تناول الأوكسجين، وكذلك الأمر بالنسبة لبيئات العمل الاقتصادية المختلفة والتي تفرض على الإنسان التأقلم مع معطياتها، تساعده في ذلك التفاعلات الفيزيولوجية المانحة لخاصية القابلية وقدرة التأقلم.

أمّا التكيّف فهو مجموعة التغيرات التطورية الشكلية المتلائمة مع العوامل البيئية الطبيعية، تماماً كما يفرض فيروس «كورونا» المستجد تكيّف الإنسان في جميع شكلياته تواؤماً مع معطيات ما تفرضه هذه الجائحة على كافة الأصعدة ومختلف المجالات وعلى رأسها المجال الاقتصادي.

ومثلما تأقلم الإنسان في أول تغير اقتصادي انتقل فيه من العصر الاقتصادي الزراعي إلى العصر الاقتصادي الصناعي ثم في التغيير الثاني له من الاقتصاد الصناعي إلى اقتصاد المكاتب والشركات ثم الانتقال إلى العصر الذي نحن بصدد الحديث عن أهمية التأقلم مع معطياته وهو العصر الاقتصادي الرابع «اقتصاد المعرفة»، مع ملاحظة أن عملية التأقلم مع كل تغيير وانتقال في العصور الاقتصادية الأربعة تمت تدريجياً لأن التأقلم يفترض التدرّج مثلما يتدرّج الإنسان في تغيّر درجة الحرارة التي لو حدث أنها حدثت فجأة، فإن الإنسان حينها يفقد خاصية التأقلم، ويمكن أن يفقد حياته بخلاف لو حدث ذلك التغيّر بشكل تدريجي، فإن الإنسان حينها يتمكن من التعايش والتأقلم بشكل تدريجي حتى يصبح الأمر اعتيادياً،

ويستمر التأقلم مع الارتفاع المرتفع لعدة أشهر أو حتى سنوات. ويتيح في نهاية المطاف للبشر البقاء على قيد الحياة في بيئة يمكن أن تقتلهم، إذا ما تم تغيرها فجأة. تماماً كما يحدث في عالم النبات.

فالعديد من النباتات، مثل أشجار القيقب، السوسن، والطماطم (البندورة)، يمكن أن تبقى على قيد الحياة إذا انخفضت درجة الحرارة تدريجياً أقل وأقل كل ليلة على مدى أيام أو أسابيع. الانخفاض نفسه قد يقتلهم إذا حدث فجأة. وقد أظهرت الدراسات أن نباتات الطماطم التي تأقلمت إلى درجة حرارة أعلى على مدى عدة أيام، كانت أكثر كفاءة في التمثيل الضوئي عند درجات حرارة عالية نسبياً من النباتات التي لم يسمح لها بالتأقلم.

يتأقلم البشر مع ظروف بيئة العمل، وتتغير لديهم بعض الأشياء مثل اكتساب مرونة أعلى في تعاملاتهم.

وفي عالم الحيوانات، بعض الأغنام ينمو لها صوف سميك جداً في المناخات الباردة، والأسماك لها القدرة على ضبط درجة حرارتها لتتوافق مع درجة حرارة الماء، والأسماك الاستوائية التي تباع في متاجر الحيوانات الأليفة، غالباً ما تبقى لأن لها القدرة أيضاً على التأقلم.

ولذلك فإن شرط التأقلم دائماً سيكون هو التدرّج في التغيّر سواء في بيئة العمل للإنسان أو في بيئته الطبيعية. وللحديث بقية.

 * خبيرة الاقتصاد المعرفي