يتساءل العربي المترامية أقطاره عن خير السُّبل للنجاة بأقل الخسائر. والخسائر كثيرة من حولنا وباهظة، أولها خسارة الأوطان، وليس آخرها خسارة الإنسان، وما بينهما من انهيارات في المعاني والمباني.
لم تعد الأحلام فيّاضة بالتوقعات، كما كان عليه الأمر في الماضي القريب. صارت الدائرة تضيق مع حمّى الحروب، وضراوة العيش في ظل الاقتصادات المتذبذبة التي تفضي إلى مداخيل مترنحة، وإحباطات لا ضفاف لها. تلك الأحلام المجنّحة تصلح الآن للتذكر وحسب. ولمن لا يشاء النسيان أن يمارس، مؤقتاً، هواية الإنكار؛ فلعل الوهم يمنحه بعضاً من المسرّة الخاطفة.
ماذا يريد الكائن كي ينام ليله مطمئناً؟ سؤال يتجاوز حدوده اللغوية المباشرة والبسيطة، ليفتح أكواناً من التساؤلات عن معنى الطمأنينة، وإن كانت مؤقتة لليلة أو ليلتين أو دائمة، مع ما يصحب هذه الديمومة من شعور تلقائي بالسعادة والأمان.
«على قلق كأنّ الريح تحتي» قالها المتنبي، قبل أكثر من ألف عام، ولا تزال عنواناً للعربي في هذه القنطرة الملتبسة من العيش الذي يقضّ المضاجع، ويجعل الأجساد تتقلّب على نار الحيرة والخيبة وانعدام اليقين.
حدّقْ في الخريطة، لتعرف الأقطار العربية المستقرة، ولتدرك أنها لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، في أكثر التقديرات تفاؤلاً وإسرافاً في الأمل.
ما أصعب أن تعمل في بيئة محبِطة، وما أشقّ على النفس من الحياة في حيّز خالٍ من الأوكسجين، وما أقسى أن تفتح «فيسبوك» فتنهمر عليك منشورات النعي السوداء التي جعلت الفضاء الأزرق مقبرة، فتحار من تعزّي أولاً، وتُسائل عينيك إن ظل في المآقي دمع لتذرفه على أولئك الذين «نجوا من الحياة بأعجوبة».
لا وقت لكي يقلّب العربي يديه مرتبكاً ويسرح في البعيد. لا بد من إعادة تأهيل الأمل كي يكون قادراً على التنفس بلا ضغائن أو غبار يخترق الرئتين.
يتساءل مفكرون عاشوا أزمنة التنوير، وقاسوا عصور الظلمات: ما الأولوية الآن: للخبز أم للديمقراطية. للأمن أم للبرلمان. للتجوّل حتى مطلع النهار، أم للتسلل مبكّراً إلى المنازل المأهولة بالخوف، هرباً من العسس واللصوص؟
هتف كثيرون للحرية في المشرق العربي ومغربه. الحرية لون الإنسان، وهي التطلع الأسمى له في الحياة. لكنّ الحرية تحتاج إلى تدريب وتأهيل وثقافة، لاسيما إذا تزامنت مع لحظة يعتقد فيها بعضهم أنّ الحرية هي حريته وحدَه، بكل ما في كلمة «وحده» من إقصاء وهيمنة وإكراه.
ويسأل آخرون عن التحدي الأكبر: ماذا لو تلازَم الخبز مع الديمقراطية، ولماذا ينبغي لأحدهما أن يكون بديلاً عن الآخر. ألا يتعايش الأمن مع البرلمان. ألا تتآخى البندقية مع الحضارة والثقافة والعمران، فتكون حارسة ناعمة للرخاء والرفاهية؟
وفي سياق التساؤلات المتدفقة بلا انقطاع، من حق العربي الحائر أن يبحث عن «المستبد العادل» الذي يطبّق العدالة على الناس ويسوسهم بالحزم، فلا يكون استبداده مرادفاً للطغيان، كما يلاحظ محمد عابد الجابري، بل الاستبداد المقصود هنا هو «عدم التردد في اتخاذ القرار وتنفيذه»، على قاعدة «إنّما العاجز مَن لا يَستبد»، فالعدل يفقد مضمونه في حال العجز عن تطبيقه. وثمة مَن يرى في الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، مثالاً لهذا «العادل» الذي قاد الدولة الإسلامية في لحظة حرجة، فقوّم الاعوجاج، وسدّ الثغرات، وأنشأ نظاماً متقدماً لدولة حديثة، قوامها اختيار الولاة المشهود لهم بالأمانة والنزاهة ونظافة اليد والرأي السديد.
كان ابن الخطاب مشهوراً بعدله وتطبيقه الصارم لمفاهيم المساواة والمحاسبة، وما لقبه «الفاروق» آتٍ من فراغ؛ فقد كان يفرّق بين الحق وبين الباطل، ويتتبّع كل مظلمة، بكل ما في جوارحه من استقامة، حتى لو كان المخطئ واحداً من أبرز ولاته، كما حدث مع عمرو بن العاص، وحكاية السباق الشهيرة.
وما انفكّ ابن الخطاب يقول: «أيُّما عاملٍ لي ظلم أحداً، فبلغتني مَظلَمتُه فلم أغيّرها فأنا ظلمتُه». وجاء من بعده ابن القيّم فأكد صوابية حكم الخليفة الراشد ومقاصديته العميقة: «أينما يكون العدل فثمّ شرعُ الله».
* أستاذ الإعلام في الجامعة الأمريكية بدبي