يَعرف كثيرون أنّ كلمة «الإسلام» مشتقة من السلام في جذرها اللغوي وفي مرجعيتها النفسية والاجتماعية. على السلام وبالسلام تأسست الدعوة ونهضت الرسالة، فكانت الدولة، أو قل الإمبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس ولا القمر.
بالكلمة الطيبة، والنموذج الخيّر الذي يستوعب ولا يُقصي، استطاعت فكرة الإسلام أن تصل وتتمدّد، وأن تخترق أعتى الحصون وأشدّ القلوب قسوة. ولهذا جاءت الآية الكريمة: «ولو كنتَ فظاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك». ولنا، استدراكاً أن نتذكّر الأذى الذي كابده النبي محمد، عليه السلام، وتحمله وعضّ على جراحه وهو يدعو لقومه ولا يدعو عليهم: «اللهم اهدِ قومي، فإنهم لا يعلمون».
بهذا المثال الأخلاقي الأعلى اشتد عود الدعوة التي بنت دولة تعملقت ووصلت أقاصي الأرض وما وراء البحار. المثال قام على الخيرية والرحمة والغفران والعدل والحق، فانتصر.
أما لماذا اختطف الزمن الإمبراطورية الإسلامية وفسّخ أركانها، فمردّ ذلك الابتعادُ عن تلك القيم السامية، والانصراف إلى التفاصيل التي أرهقت الدين، وجعلت الدنيا مصنعاً للشر، وبالتالي فهي أرض مفر لا أرض مقر، كما يروّج إلى ذلك دعاة ما يعرف بـ«الإسلام السياسي» أو «الإسلام الجهادي» الذين فرّغوا الدين من ماء الرحمة، واقتطعوا من النصوص ما راق لهم، فأضحى الإسلام في نظرهم، وهذا ما يَعتقد به كثير من أهل الغرب، موئلاً للتوحش، ومنبعاً للعنف وإضرام النار في جسد الدنيا، وتدمير ما أمر اللهُ الإنسان بإعماره.
فقهاء «الإسلام السياسي» وأيضاً أصحاب السرديات الجهادية المجبولة بالدم، طووا صفحة الإسلام المعتدل الوسطي المستنير، ولاذوا ببعض النصوص، بعدما نزعوها من سياقاتها التاريخية، وقدموها على أنها الإسلام الحقيقي الذي يتبنّى، كأولوية قصوى، آيات من قبيل «وَاقْتلوهم حيثُ ثَقِفتُموهم وأَخرِجوهم من حيث أَخرجُوكم» التي قيلت في إطار محدد وضيق، وفي لحظة زمنية لا يتعين تعميمها على الأزمنة كافة، وهذا ما لا يفقهه المتاجرون بالدين، والرافعون شعارات المُغالَبة.
ويحدث في فوضى تلك الأحكام التي يطلقها «فقهاء الويل والثبور» أن ترحل عن دنيانا مفكرة وناشطة ومناضلة مثل نوال السعداوي، فيفزّ من بيننا من يدعو إلى إخراجها من حيّز الرحمة الإلهية، بذريعة أنها كانت صاحبة تصوّرات معارِضة للذين اختطفوا الإسلام، وصادروا هواء الرأفة من نصوصه. هؤلاء «الناطقون بلسان السماء»، وهذا عنوان كتاب لي، تصدت لهم السعداوي بضراوة طيلة نصف قرن، وانتصرت لفكرة تحرر النساء من قيود المؤسسة الذكورية المتحالفة مع تجّار الدين، الذين يعتقدون أنّ الله لهم وحدهم، فيقرّرون مَن تجوز عليه الرحمة، ومَن هو خارج رحمة الله، في إعادة مقيتة إلى أزمنة صكوك الغفران، وإنتاج اللاهوت.
وسبق لهذا الفريق المنشقّ عن روح الإسلام الحقيقية المؤسَسَة على الأخوة الإنسانية، وعن معنى الدين الرحيم، أن أصدروا الفتاوى، عام 2013، بعدم جواز الترحم على الزعيم الأفريقي المناضل نيلسون مانديلا، بذريعة أنه نصراني، وكأنّ النصارى ليسوا من خَلْق الله، وكأنّ الساعات التي تسيّج معاصم أولئك المتاجرين بالدين، لم تصنع في سويسرا، وسياراتهم لم تنتج في ألمانيا، وأجهزتهم الخلوية لم تأتِ من أمريكا، وكأنّ الأدوية والأجهزة في مستشفياتهم ليست ابنة العقل النصراني الذي ينتسب إلى الإبداع الإنساني، على قاعدة أنّ العلم لا يعرف ديناً ولا طائفة ولا لوناً، ولا يكترث بمساقط الرؤوس.
مانديلا، الذي أخرج شعبه من ظلمات البطش والاستعمار إلى نور الحرية، كان مؤمناً، بخلاف الملحد ستيفن هوكينغ، أحدِ ألمع علماء الفيزياء النظرية وعلم الكون على مستوى العالم، وصاحب الكتاب الذي طبقت شهرته الآفاق «تاريخ موجز للزمن».
ورغم ذلك، عندما توفي هوكينغ، عام 2018، نعاه البابا فرانسيس، بابا الفاتيكان، برسالة مؤثرة جداً: «ستيفن هوكينغ عاش حياة منتصرة في ظل معاناة هائلة. لم يكن المفكرُ العظيم يؤمن بالله، ولكن بدا لي أنّ حياته كانت إعلاناً عن محبة الله العميقة والإبداع اللامحدود».