ما انفكّ يُنظر إلى الصيام بوصفه سلوكاً تطهّرياً، وارتقاءً فوق نزعات الجسد، وتطلّعاً إلى السمو النفسيّ الذي يمنحه للإنسان الامتناع عن الطعام والشراب.

وتلكم سمة تتمتع بها الأديان السماوية، وسواها من الأديان التي ترى في الصيام كبحاً لنزوات الكائن، وسجناً للطاقة المنفلتة من عقالها التي يتعيّن أن يروّضها الصيام.

وفي كثير من الثقافات يسمح للصائم أن يأكل ويشرب، لأنها تتطلّع إلى التسامي عن ارتكاب الأذى. الصيام بهذا المعنى العميق يعني نبذ القبيح من الأقوال والأفعال، والانتقال إلى تجسيد قيم الأخوة الإنسانية القائمة على التعاطف والتضامن والتسامح.

وإن لم نعِ هذه القيم الكبرى، فإن الصيام في «رمضان» يغدو ممارسة ميكانيكية هدفها الامتناع فقط عن الطعام والشراب، وهذا هو الوجه الظاهر لهذه الشعيرة المقدسة.

الصيام هو الزهد، وهو التعفف، وهو الاستغناء، وهو التفكر والتدبر، وأيضاً هو الإحساس بآلام الآخرين الذي تجبرهم الحياة على الصوم القسري الممتد، لأن ثمة من يصحو كل صباح ولا يجد كسرة خبز تسد رمقه.

«رمضان» أيضاً فرصة للإطلالة على تقاسم النعماء مع الناس، ليس في الطعام والشراب وحدهما، بل في السلوك العام الذي يتسم بفيوضات من الورع، تكون بمثابة استراحة وإراحة للقوى الشريرة في داخلنا، التي تظل تعمل بضراوة طوال أشهر السنة.

ولعله أدعى إلى تحقيق المقاصدية الدينية النبيلة في «رمضان» أن نجلو صورة الشهر الكريم، وننزع عنها ما علق بها من أفكار تنطوي على مقدار عالٍ من الواقعية، وفي مقدمها تحوّل «رمضان» إلى شهر للعطالة وضعف الإنتاجية، والانهماك في طلب الملذات من طعام وشراب، حتى إن كثيرين تزداد أوزانهم، وتتضاعف نفقاتهم، ويختل ميزانهم النفسي والصحي، لأن غالبيتهم يقضون الليل في السهر ومتابعة المسلسلات وزيارة الأصحاب والأقارب (رغم جائحة «كورونا»)، فيما النّهار، لعمل قليل متثائب، على شحّ ساعات الدوام فيه، وشكوى مزمنة من وطأة الجوع والعطش.

خرجت هذه الشعيرة الأساسية عن مقاصدها لدى الكثيرين الذين لم يعودوا يتذكرون أن الصوم يعني الامتناع، وفي المقابل يعني، تصفية البدن من الشره، ومن سموم العداوات، والسخاء عبر تزكية النفس ببذل الخير، والتعاطف مع الفقراء والمحتاجين، والتكافل الاجتماعي، والتواصل الإنساني مع من تقطعت بهم السبل وفقدوا أعمالهم وأرزاقهم وأموالهم.

وهنا يأتي دور الفقهاء والدعاة في توجيه دفة الصائمين نحو تخصيص جزء من أموالهم المنفقة على الطعام والشراب والمآدب العامرة، لمصلحة الفئات الأكثر تضرراً من جائحة «كورونا»، فلا شيء يُعمّر الأرض مثل الخير.

الدين، مثل أي فكرة خيّرة، يكسب عندما تتحول نصوصه إلى خطط عمل، أو إلى مشاريع ينتفع منها الناس الذين ما زالوا يرون في الأديان منصة للصلاح، ورتق خروق الحياة، ومقاومة إكراهات العيش في أزمنة التصحّر الأخلاقي، والحيلولة دون ذبول قيم العدل والتشاركية.

ويمكن، بل ينبغي، لمنافع الصيام أن تتعدى أفق الطعام والشراب، إن جرى، على نحو عميق، فقه هذه الشعيرة التي ينظر إليها كثيرون على أنها أصعب الشعائر وأطولها، ما يستدعي تحويل هذا الشهر إلى خير دائم موصول يفيض على أشهر السنة، إن كنّا راغبين، حقاً، في إظهار الوجه التضامني للدين.

الدنيوي في «رمضان» يهزم الديني، والإنفاق فيه يتجاوز بنسبة 150 % سائر الأشهر الأخرى، ومن هذا الإنفاق «الأسطوري» لا يحظى الفقراء والمحتاجون وأبناء السبيل، إلا بالفتات، فثمة من يتضوّر من الجوع وقلة الحيلة، وهناك من يتضوّر من فرط التخمة. وعلى هاتين الضفتين تُمتحن مقاصدية الدين.

في المقالة المقبلة سنتحدث عن الزكاة، باعتبارها «أيقونة» الأركان الخمسة.