عشية العيد، تبقى روح الفتى، الذي أوغل في الخمسين، متوزّعة بين زمنين ومكانين، أولهما طاعن في الخيال، وثانيهما يصنع ذاكرةً، في دبي، تحاول أن تخفّف من هجير الاغتراب، وتطفئ نار الحنين بالصور التي تتقاقز كمصابيح يداعبها النسيم.ولن نكون مثل المتبرّمين الذين يستدعون، كلَّ عيد، بيت المتنبي الشهير «عيد بأية حال عدتَ يا عيدُ»، بل سندفع عجلة الأمل إلى الأمام، علّ طفلاً بزيّ جديد في دبي أو أبوظبي أو عمّان، يحمل إلى القلب فرحاً، ويضيء في الروح عزماً، ويجعل الأوقات الصعبة برداً وسلاماً على النفوس.
لكل مكان سرديته الخاصة في العيد، وكلما كانت السردية شفاهية، كانت أدعى إلى الشوق والدهشة، حيث يستحضر من عاشوا الزمن الجميل الممتدّ في دولة الإمارات، أجواءَ العيد وطقوسَ رؤية الهلال وبهجة التفاصيل.
يقول المواطن سيف عيسى المنصوري، كما نقلت عنه، قبل ثلاث سنوات، صحيفة محلية: «كان المسنون هم من يحسبون لأيام رمضان والعيد، وإذا رأى الهلال أحد من الساكنين بعيداً، فإنه يثور (يطلق الرصاص) من (التفق) (البندقية)، وبذلك نعرف أنهم قد رأوا الهلال فيبدأ الصوم، وكذلك هي الحال في العيد»، بينما تقول المواطنة صغيرة شنين الفلاحي: «في الماضي كانت البيوت المقتدرة تطبخ الأرز واللحم في العيد، وكانت بعض البيوت تضع ضيافة العيد من الخبيص والبلاليط، والثريد والعرسية».
وعن اللباس، بشكل خاص، تقول الفلاحي: «لم يكن هناك خياطون، فقد كنا نخيط الملابس بأيدينا على ضوء الفنر (الفانوس) في الليل، ونبدأ بتفصيل الثوب قبلها بفترة تصل إلى شهر لكي يكون الثوب جاهزاً في يوم العيد».
ويتذكّر المواطن مبارك محمد بن جرش الخيلي: «في صباح العيد كل واحد يُلبِسُ أبناءه أفضل ما يتوافر لديهم، ويتجمع الرجال ثم يبحثون عن مكان مرتفع فيؤمهم أحد الجيران من حَفَظة القرآن فيصلّي بهم في الصباح الباكر. وبعدها يعود كل واحد إلى بيته وهو يحمل فوالة العيد، وهي وجبة خفيفة تقدم للضيوف».
وفي كتاب «ذاكرتهم تاريخنا»، الصادر عن الأرشيف الوطني، يتذكر المواطن سعيد أحمد ناصر بن لوتاه، من دبي، العيد وطقوسه: «النساء كنّ يتحدين بعضهن بعضاً عند طبخ الهريس، وهو من الأكلات الشعبية الشائعة في رمضان. وفي الأعياد كنا نصنع المريحانة (الأرجوحة) إذ نقوم بربط حبال قوية بين نخلتين قويتين، كي تتحمل وزن البنات اللائي يتضاحكن تعبيراً عن سعادتهن وفرحتهن بالعيد».
ويضيف الراوي: «كانت هناك سوق قديمة يطلق عليها الأهالي اسم (خلّص خلّص) وكنا نذهب إليها لنلعب ونشتري الحلوى والقبيط (نوع من أنواع الحلوى)، وزق السبال (الفول السوداني)».
وهو يطالع مقتطفات من التاريخ الشفهي لزمن يفوح بعطر البساطة والنقاء، تذهب ذاكرة الفتى إلى أربعين عاماً خلت، حين يلتمع العيد كأنه لحظة استثنائية في حياة الناس، في مخيم الحسين، وفي طليعتهم الأطفال الأكثر إدراكاً واستمتاعاً بمعنى العيد.
منذ شقشقة خيوط الفجر الأولى، كنا نصحو ونستعد لارتداء ملابسنا الجديدة التي اشترتها لنا أمنا (رحمها الله) من شارع بسمان بوسط البلد، ونحرص على ألّا تتسخ أو «تتجعلك»، ولا سيما ونحن نطير عبر المراجيح الخشبية التي تنتصب في الشارع رقم 19 السفلي.
ولا تتوقف «الهدايا» في عيد الفطر الذي اعتاد الأهالي أن يبدأوه بأكل الفسيخ (السمك المملّح)، الذي يُعتقد أنه يساهم في حفظ توازن المعدة، ويُعدّ ممراً آمناً وسبيلاً للهبوط السلس من أجواء رمضان إلى الحياة المألوفة بعد الصيام، والاعتياد على تناول حلويات العيد من دون أوجاع في المعدة.
ظلت حلويات الرزّاز (أبو الحكم) تُسيّل اللعاب، فيما تتولى حلوى «ناشد» نشر لذة الذوبان في الأفواه والحلوق، وأما مشروب «كرَاش» فلا يضاهيه أيّ مشروب غازيّ آخر.
ولما نتسلّم العيديات، وكانت أحياناً سخيّة، نذهب أنا وأشقائي: يسرى وعيسى ومحمد، لالتقاط صور في استوديو ريم (لصاحبه أيوب الطويل) في أول المخيم، على خلفية تظهرنا كأننا في مدن تاريخية عريقة، أو قرب بحر عاصف، أو على مشارف جبل شاهق يطل على الغيوم.
أما اللحظة الساخنة في العيد، فكانت الذهاب إلى سينما القدس في جبل الحسين. وأذكر أنني، ذات عيد، شاهدت فيلم «الأبطال» منتصف السبعينيات، وكم بكيتُ عندما سطا اللصوص على منزل علي نصر الدين (والد أحمد رمزي) وسرقوا ثروته وقتلوه مع زوجته وابنته. ولم يعلم اللصوص أنّ أحمد رمزي كان مختبئاً تحت السرير يشاهدهم واحداً واحداً، ويقرر الانتقام منهم، بعدما تدرّب على الكراتيه.
مضت السنون، ورحنا نتدرّب على الكراتيه، ولكنّ اللصوص نهبوا كلّ شيء، ولم يتركوا لنا سوى الذكريات!