مع أننا في أيام مباركة، حيث تسود روح التحلي بالمشاعر الطيبة، التي تصفو فيها النفوس حين نتبادلها مع الآخرين، إلا أنني ضبطت نفسي متلبسة بمشاعر الشماتة. أي نعم الشماتة، على الرغم من أن نبينا يحذرنا ألا نبدي الشماتة في أحد، لأن الله قد يرحمه، ويبتلينا نحن. لكن عذري أنني لا أشمت في شخص، بل في مدرسة ساد منهجها بعض وسائل الإعلام العربي، الصحفي والتلفزيوني في العقود الأخيرة. وهي مدرسة تتسم بالخروج الفاضح عن أدبيات المهنة وتقاليدها، ومدونتها الأخلاقية. تمثل ذلك في الفُجر في الخصومة، والكذب وتحقيق الإثارة أولاً وأخيراً، فضلاً عن خلط الأوراق، وفبركة أحداث، والمبالغة في ملابساتها، وصناعة نجوم من شخصيات تافهة لا قيمة لها، وإبقاء الضوء مسلطاً عليها بمناسبة وبدونها، وقول وكتابة مواضيع إنشاء تنطوي على عبارات رنانة زاعقة، تبعد سامعها وقارئها عن أي معرفة للحقيقة. وفوق ذلك وقبله، التخلي عن المسؤولية التي تحددها مواثيق العمل الصحفي والإعلامي المحلية والدولية، التي سادت منذ النصف الثاني من القرن العشرين.
ففي العام 1953، أصدرت اللجنة الفرعية لحرية الإعلام والصحافة في الأمم المتحدة ميثاقاً دولياً للعاملين في مجال الإعلام، يقضي بإحداث التوازن بين الحرية والمسؤولية، ويطالب العاملين في الصحافة وجميع وسائل الإعلام الأخرى، بالسعي الأمين إلى الحقيقة فيما يبثونه من تقارير إخبارية. كما ألزمهم بخدمة مصالح عامة، لا منافع خاصة، والبعد عن الافتراء والقذف والتشهير المتعمد، وتصفية الحسابات، والاتهامات التي لا أساس لها من الصحة، باعتبارها مخالفات مهنية جسيمة، وهي نفس القواعد التي التزمت بها مواثيق العمل الإعلامي في معظم الدول العربية. وأضيف إليها في العام 1983 إعلان «اليونسكو» عن المبادئ الدولية لأخلاقيات مهنة الصحافة، الذي اعتبر نشر المعلومات رسالة اجتماعية لا سلعة تجارية، وأنه يجب الامتناع عن تبرير أو التحريض على الحروب العدوانية، أو الانحياز لكافة أشكال العنف والكراهية أو التفرقة.
لكن المخالفات المهنية الجسيمة، غدت طبقاً شهياً في إعلام الإثارة والتهييج، وبدا العامل المؤثر في صناعة ما بات يسمى بـ«ثورات الربيع العربي»، وتمدد على مدار العقود الثلاثة الأخيرة. وما يلوح في الأفق أنه في طريقه إلى الذبول.
وعلى المستوى الفني، يفضح المسلسل الباهر «القاهرة – كابول»، الذي حظي بنسبة مشاهدة عالية في موسم رمضان، هذا اللون من الإعلام المنافق، الذي لا يفتقد فقط القواعد المهنية والأخلاقية، بل أيضاً الضمير. ويكشف أساليب صناعة نجوم إعلامية من ورق، تتاجر بالأديان والأوطان، ولا ولاء لها إلا لذاتها ولأرباحها. ويكتسب المسلسل مصداقيته من أن معظم مشاهديه، ممن عاصروا كثيراً من وقائعه، التي كان يسوقها هذا اللون من الإعلام الموجه، وكأنها دفاع عن مصالح وطنية!
وجاء التغيير المتلاحق في المنطقة، ليوجه الضربة الثانية لهذا الإعلام، الذي تموله وتسيطر على توجهاته، جماعة «الإخوان» وتنظيمها الدولي. والمفاوضات التي تجري بين القاهرة وأنقرة لحل المشاكل العالقة بين مصر وتركيا، أغلقت شطراً منه في إسطنبول، والأخرى التي تحدث لتحسين العلاقات السعودية - التركية.
سوف يكون من نتائجها التلقائية، غل يد ذلك اللون من الإعلام المخرب، ووضعه في قفص الاتهام، أمام كثيرين ممن انخدعوا في أهدافه ومراميه.
ولأن أول الغيث قطرة، فقد جاء الترحيب التركي الرسمي الأخير بعدالة محاكمة المتهمين في قضية «جمال خاشقجي» أمام القضاء السعودي، ليطوي صفحة مغرضة من المهاترات الإعلامية، التي تخفّت وراء تلك القضية، للتصدي للثورة الإصلاحية التي يقودها، بروح وثابة وعقل مستنير، ولي العهد الأمير محمد بن سلمان لتحديث المملكة العربية السعودية، وقيادتها نحو نقلة حضارية، على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فضلاً عن تجديده الخلاق للخطاب الديني، الذي ظلت تحتكر تفسيره لعقود عدة، القوى المحافظة، التي تعتمد تفسيراً للنصوص الدينية يتجاهل الزمان والمكان والسياق التاريخي، ليبقي المسلمين أسرى لبراثن التخلف والانغلاق، وضيق الأفق. وجاء الحديث الأخير للأمير محمد بن سلمان للتلفزيون السعودي، ليطوي تلك الصفحة المظلمة من التاريخ، ويفتح طاقات نور لمسلمي العالم، حين أكد التزام الدولة السعودية بالأحكام الشرعية، قطعية الثبوت، قطعية الدلالة بنسبتها إلى القرآن والسنة المتواترة.
تقوم السياسة الآن بدورها في محاصرة ذلك الإعلام الخبيث، ويبقى وعي المواطن العربي هو السلاح الأمضى في القضاء عليه، وليس الاكتفاء بالشماتة في مصيره الذاهب إلى المجهول.
* رئيسة تحرير جريدة «الأهالي» المصرية