عدتُ مطلع الأسبوع إلى دبي، بعد زيارة قصيرة إلى عمّان؛ حيث قضيت عيد الفطر مع عائلتي وابنتي التي أهدتني حفيداً منح قلبي سعادة غامرة ونادرة في هذا الزمن الشحيح من الأماني والفرح.

وخلال الإجازة قاومتُ، بكلّ ما أوتيتُ من عزم، المقارنة بين المكان الذي جئت منه والمكان الذي حللتُ فيه. كان أمراً مرهقاً لكائن مثلي تأسره التفاصيل، ويرى أنّ ثقافة القانون إن سادت، فثمة حضارة، وإن تآكلت، فإنّ الحال يغدو مثل «حارة كل مين إيدو إلو».

المقارنة، بلا ريب استنزفت أعصابي، وجعلتني ألزم البيت، ولا أخرج منه إلا للضرورات القصوى، ولا داعي أن أسهب في التفاصيل التي لا تخطر على بال بشر، ولكن الحق أوْلى أن يُتّبع، والساكت عن هذا الحق شيطان أخرس، وفي المقابل أيضاً، من لا يشكر الناسَ، لا يشكر الله.

على الضفة الأخرى من المشهد، ثمة نظام (System)، يستحق أن يلفت المرءُ إلى أهميته وجدواه في ترسيخ الصورة، وتكريس النمط،، ولا أعتقد أنّ التفاصيل التي سأسردها مستغرَبة على القاطنين في دبي، أو الذين يزورونها، ولكنّني أذكرها لتأكيد المؤكد، وتعميق ثقافة القانون (خصوصاً في ظل جائحة «كورونا»)، وهو ما وقفتُ عليه منذ أن حطّت الطائرة في مطار دبي، حتى وصولي إلى منزلي في «ميديا سيتي».

كلّ شيء، وأجزم: كلّ شيء، كان يجري بنظام أحسستُ خلاله بأنّ أكثر من مئتي شخص، في الوقت الذي أتحدث عنه، يتحرّكون كأنهم «روبوتات». لا أحد يزاحم الآخر، أو يتعدى على «الدوْر». لا أحد يتجاهل التباعد الجسدي أو وضع الكمامة. الكلّ يصدع للتعليمات الآتية من المشرفات والمشرفين الذين يرشدون القادمين إلى كل خطوة تالية بالتفصيل.

الأهم من ذلك أنّ لا أحد يعترض أو يتأفف ولو كانت بعض الإجراءات تستلزم بعض الوقت، خصوصاً لدى إنجاز فحص «كوفيد 19» الذي يحتاج إلى دقة عالية وبرودة أعصاب.

الذي «خرق» القانون فعل ذلك لأسباب إنسانية، عندما رأى بعض الأسر ومعها أطفال نال منهم الإعياء والتعب، فشقّ لهم طريقاً، ويسّر إجراءاتهم، فيما كانت قلوب الحاضرين تحيّيه بصمت وحبور.

تذهب إلى البوابات الذكية فتنجز دخولك في أقل من دقيقة، وإن لم تتمكن، لأسباب تقنية، فثمة موظف جوازات بشوش يلقاك بالتحية، وينفذ معاملتك بسرعة وإتقان.

ولا ينتهي الأمر بمجرد أن يختم القادم جوازه ويتوجه لأخذ حقائبه، بل إن الـ (System) يتواصل، فترى مسارات لمن يريد أن يستقل سيارة خاصة تنتظره، فيما أغلب القادمين يتوجّهون إلى مسرب حافلات التاكسي الذي اصطفّ فيه عدد كبير جداً من البشر.

وكنت قد تهتُ عن مكان انتظار التاكسي، ووصلت إلى حاجز يتمثل في شريط بلاستيكي أزرق يصل بين عمودين معدنيين، وكان بجواري رجل عربي وعائلته، ورأيته يقفل عائداً إلى الصفّ الطويل للواقفين بانتظار سيارات التاكسي، وهو يقول لزوجته «خلينا نلتزم بالدور، إحنا مش أحسن من الناس الواقفة».

في الخارج، قبل مجيء التاكسي ترى موظفين، بسترات خاصة، يعملون بجد وإيقاع عملي، فيوجّهون جموع الركاب إلى الحافلات المنتظرة، بلا أبواق أو فوضى، ويشيّعونهم بابتسامة تبعث الرضى في الروح.

إجراءات استغرقت نحو ساعة، وأُنجزت بقدْر عالٍ من الدقة والشفافية والعدالة. الكلّ يبتسم رغم الإرهاق والانتظارات، لكنّ الكلّ موافق على الـ (System)، ومنصاع له بكلّ طواعية.

استقبلني سائق التاكسي بوجه بسّام، وساعدني في حمل الحقائب، وسألني عن وجهتي، ثم قاد مركبته التي اخترقت ليل دبي المضاء بالسكينة والوعد والشغف.

العبرة المستفادة: اصنع كلّ ما هو مطلوب بتفانٍ ومسؤولية، ودع أفعالك تتحدث عنك.

* أستاذ الإعلام في الجامعة الأمريكية بدبي