وصفوه بملاذ الغاضبين، أو محكمة صلح المتخاصمين، أو ساحة لعب مفتوحة، بعيداً عن تعليمات الأم الصارمة، ورقابة الأب لكل صغيرة وكبيرة، إنه بيت الجد والجدة، جنة الأحفاد، ومأوى الأبناء والبنات.
إذا حصل خلاف حاد بين الزوج وزوجته وعاد إلى البيت ولم يجدها فإنه يعرف أين تكون، وإذا غضبت الابنة من زوجها أيضاً تعرف أين تجده، وإذا تأخر الابن المراهق في العودة إلى البيت، فوالداه يعرفان أين يكون. وهل من مكان غير بيت الجد والجدة؟!
«اليوم عطلة نهاية الأسبوع، أين تحبون أن نذهب؟»، يقولون بصوت واحد «عند جدو وتيتا»، ألا تريدون أن تذهبوا إلى مدينة الألعاب؟ لا لا.. إلى المول؟ لا لا.. «عند جدو وتيتا».
هناك، عند الجد والجدة ثمة لافتة معلقة على قلبيهما «لا أغلى من الولد إلا ولد الولد». حنان بلا حساب، دلال بلا ميوعة، تربية بدون ترهيب، ومسؤولية من الدرجة الثانية، الأولى للآباء والأمهات طبعاً، هما الآن في إجازة دائمة من التوتر و«الشخط» والقسوة الضرورية أحياناً للتربية، ولا تدري أيهم يمنح الحنان إلى الآخر، الأجداد أم الأحفاد، وكلهم بحاجة إليه.
في بيت الجد والجدة، كل شيء متاح، وكل فعل مباح، من باب الثلاجة إلى باب الحديقة إلى باب الخزانة والأدراج، فكلها تفضي إلى بوابة فرح باتجاهين، من وإلى القلوب الطرية. الصراخ موسيقى ملائكية، القفز على المقاعد رفرفة فراشات حول زهر العمر، وضربة كرة طائشة على رأس الجد، وردة سقطت من غصن.
الجد الذي كان مشغولاً بتربية الأبناء، الذين أصبحوا الآن آباء، يستنسخ الآن الزمن لكن من دون مشاغل الحياة، ومن دون تكشيرة مرعبة، ونظرة غضب تهد حيل الطفل. الآن إن فعلها الأب يركض الحفيد إلى حضن الجد، وتهرع الطفلة لتختبئ خلف ظهر الجدة، وليتسمر الأب أو الأم مكانهما، فقد دخل الأطفال إلى المنطقة الآمنة، لا ضرب ولا قصف، كل ما في الأمر «طيب بتشوف لما نرجع البيت».
يقول خبراء علم النفس، وفق دراسة نشرت مؤخراً، إن «الأب والأم يعيشان الأبوة والأمومة مع أطفالهما في حلوها ومُرّها، لكنّ الجدَّين يعيشان مع الأحفاد الأبوَّة والأمومة المتأخرة في حلوها فقط، أما الجانب المرّ فيتركانه للأب والأم»، لذا، يرى الأجداد في الأحفاد امتداداً طبيعياً لسلالتهم، ومصدر سعادة وفخر في حياتهم، وبدورهم، يرى الأحفاد في الأجداد الحضن، الذي يعطيهم الإحساس بالأمان والانتماء، ويزوِّد الأجداد الأحفاد بنوع من الثراء العاطفي والنفسي، كما يزودونهم بالخبرات والمعارف الأساسية في الحياة نتيجة التجارب والخبرات، وعندما ينتقل دورك من أم وأب، إلى جد وجدة، يتغير الوصف الوظيفي لمهمتك، فلا يعود هدفك الرئيس رعاية الطفل، بل تقديم الحب والاستمتاع بمشاعر الأبوة والأمومة من دون عناء.
أصبحت جداً للمرة الأولى أوائل الخمسين، وما هي إلا سنوات حتى أصبح الأحفاد سبعة لثلاثة من أولادي، قيس وأوس وسيف وسادين وسوار ورشاد وتاليا، كلما جاء حفيد كنت أشعر أنني أصغر بسنوات، أشعر بسعادة كلما عانقني حفيد، وكلما تشاجروا على الغداء من منهم أن يجلس بيني وبين جدتهم، نمضي يوماً بين لعب وصخب، فرح طفولي وشجار جميل. وعندما يحين موعد الرحيل، أعني مغادرتهم إلى بيوتهم، تندلق مناحة، فالكل يريد أن يبقى، لينام عند «جدو أو تيتا».
* كاتب أردني