في سبتمبر الماضي، أفاد نصف البالغين الأمريكيين تقريباً، في أجوبتهم عن أسئلة استطلاع للرأي، أجراه معهم «مركز بيو للأبحاث»، بأنهم لن يقبلوا على الأرجح أو على الإطلاق، أن ينالوا تطعيماً بلقاح مضاد لفيروس «كورونا» المستجد «كوفيد 19».
وكانت نسبة مؤيدي الحزب الديمقراطي، والذي ينتمي إليه الرئيس الأمريكي، جو بايدن، والذي كان لا يزال مرشحاً رئاسياً آنذاك، من بين من أعربوا عن رفضهم التطعيم، تزيد على أربعة بين كل 10 أشخاص. حدث ذلك، في وقت كانت فيه الولايات المتحدة أمة مشتتة بين الدجل، والشعوذة، والرفض المدني، وحالة تكاد تكون مخيفة من احتقار الشعب للنخبة.
من الصعوبة الشديدة بمكان، معرفة إلى أين ذهبت الولايات المتحدة، إذ تؤكد البيانات المتوفرة حتى الآن، أن السلطات الصحية الأمريكية، أعطت جرعة واحدة على الأقل من لقاح مضاد للفيروس، إلى 63 % من البالغين الأمريكيين، ما يعني ضمنياً، أن الملايين ممن أظهروا رفضهم اللقاحات، في استطلاع سبتمبر، قد غيروا آراءهم. يهدف بايدن إلى رفع نسبة البالغين الأمريكيين الذين تلقوا اللقاحات، بحيث تصل إلى 70 %، قبل حلول الرابع من يوليو المقبل، وهو يوم الاستقلال الأمريكي.
لقد بات نصف سكان الولايات المتحدة بكاملها، بصرف النظر عن أعمارهم، حاصلين على لقاحات مضادة لفيروس «كورونا» المستجد، ولو بصفة جزئية على الأقل. وفي ظل تفشّي سلالات متحورة جديدة من الفيروس، إلى الحد الذي جعل احتمالات الإصابة بعدواه بين الأمريكيين، أقرب من اكتسابهم لمناعة القطيع، فإن عدد رافضي التطعيم بين الأمريكيين، ما زال مرتفعاً، على نحو يثير القلق. ويعد الاستهتار بعدد هؤلاء الرافضين أمراً غير حصيف.
لقد حان الوقت كي ندرك الفكرة الغريبة، التي مفادها، أن الولايات المتحدة ليست سياستها. وظهر الدليل الأول على مصداقية هذه الفكرة الجديرة بالانتباه في العام الماضي، حينما سادت حالة إغلاق النشاط الاقتصادي في البلاد بسبب الجائحة، على نحو غير مسبوق إطلاقاً في أوقات السلم في التاريخ الأمريكي، ولم تقتصر نتائجها فقط على عصيان مدني واسع النطاق بين الأمريكيين.
وإنما نالت أيضاً موافقات وتأييد بأغلبية فائقة. يُعزى جزء كبير من الأسباب التي جعلت بايدن رئيساً إلى رهان سلفه، دونالد ترامب، على أنواع من الأمريكيين، يمثلون الأغلبية الصامتة، ويميلون إلى الفردية في أفكارهم وآرائهم السياسية، وهو رهان لم ينجح مُطلقاً في تاريخ الولايات المتحدة.
كانت جائحة «كوفيد 19»، بمثابة اختبار تدقيقي للحكومة الأمريكية. فعلى سبيل المثال، يُعد التطعيم باللقاحات المضادة للفيروس، على الأقل في البلدان التي تتوافر لديها جرعات كافية من اللقاحات، كالولايات المتحدة، بمثابة اختبار يقيس مدى قدرة الإدارة الحالية على الحكم. يرصد التطعيم، إلى أي مدى يقبل الناخبون الحقائق، ويخضعون للسلطات، ويضعون لبعضهم البعض قواعد للمواطَنَة الرشيدة.
يشير ارتفاع نسبة من حصلوا على اللقاحات بين البالغين الأمريكيين، إلى معنى عميق، وهو أنه ثمة فجوة بين صخب الميادين العامة في الولايات المتحدة، والإحساس الجيد بالمواطنة لدى الشعب الأمريكي، من واقع سلوكهم الجمعي «وهو ما يطلق عليه الاقتصاديون مصطلح الأولويات المُفصَح عنها».
نتحدث عن أمة بدت حتى نهاية العام الماضي متجهة بقوة صوب حالة عنيفة من التمزّق، إلا أنها تبدو الآن، وعلى نحو مفاجئ، متماسكة، وقابلة للخضوع للحكم. والدرس المستفاد من هذا التناقض الحاد، يثير اهتمام أعداء الولايات المتحدة، أكثر من أي طرف آخر، وهو باختصار، أنه لا ينبغي استلهام الكثير من الأمل من سياسات أمريكا المتناقضة.
وحينما يتعلق الأمر بقضية وجودية، فإن الأمريكيين يبدون قادرين على تجاوز السياسات المسمومة والمثيرة للانقسام في بلدهم. قد يستخدم ملايين الأمريكيين تلك السياسات، كمنفذ للتعبير عن جوانب فظة أو قبلية من أنفسهم، إلا أن غالبيتهم قادرون على الكف عنها، وعلى نحو تام، إذا كانت حياتهم الطبيعية، وخاصة مصالحهم العملية، هي التي ستتضرر.
* كبير المعلّقين السياسيين لدى صحيفة «فاينينشال تايمز» البريطانية